كَمَن يشهد موته.... ذاكرة الأيام السلميّة للثورة

تمكن قراءة هذا الكتاب من أكثر من وجهٍ، إذ يجمع بين التجربة الشخصية والتحليل وحتى الشعر. ولكن قراءته كشهادةٍ على الشهور القليلة الأولى للثورة ربما كانت الأغنى، وهو الذي صدر ضمن سلسلة "شهادات سورية"، الكتاب رقم 4، عام 2014.

تنفتح الحكاية عندما يتلقى مؤلف الكتاب، محمد ديبو، اتصالاً هاتفياً مفاجئاً في السابعة صباحاً، بعد سلسلةٍ من المكالمات الفائتة والرسائل من أقارب وأصدقاء يريدون أن يطمئنوا إلى أنه لا زال على قيد الحياة!

وبعد إجراء الضروريّ من المكالمات وردود الرسائل يلجأ المؤلف إلى الإنترنت ليعرف أن سبب هذه الهجمة المفاجئة من القلق كان استشهاد شخصٍ يحمل الاسم نفسه إثر قصفٍ لقوّات النظام على مدينة دوما بريف دمشق. مما يعيد المؤلف، الذي يطمئن والدة صديقه إلى أنه "هلأ عقلان"، إلى مساهمته في التظاهرات في الأشهر الأولى للثورة واعتقاله بسبب ذلك.

فبعد سنواتٍ وارب فيها على موقفه المعارض، حرصاً على مشاعر أمه التي ربّته وإخوته أيتاماً صغاراً، وكان شعاره خلالها "لن أكون سبباً في تعذيب هذه المرأة، وما على الوطن إلا الانتظار"؛ يتلقى صاحب الشهادة دعوةً سرّيةً من أصدقاء له إلى "مظاهرةٍ" ستجري في سوق الحميدية يوم 15 آذار 2011! ودون تفكيرٍ كثيرٍ يجيب بالموافقة. ورغم أنه لم يشارك بالفعل في هذه المظاهرة، التي اضطرّ منظّموها إلى تغيير مكانها الدقيق المتفق عليه بسبب الانتشار الأمنيّ الكثيف، بينما مؤلفنا ومن دعاه ينتظرون في مكانٍ آخر؛ إلا أنه اعتقل بعد أيامٍ من قبل المخابرات الجوّية، بفعل تقرير مخبرٍ استطاع استدراجه لرواية هذه المحاولة!

يُزَجّ المؤلف في إحدى زنازين فرع التحقيق في دمشق، بصحبة ثلاثةٍ آخرين، ليكتشف، بعد أن باح بأطرافٍ من قصّته لأحدهم، أن بينهم مخبرٌ نقل الرواية بحرفيتها إلى المحققين الذين واجهوه بها في اليوم التالي. وليُضاف إلى ضيق السجن كابوس هذه الرقابة، ومهمة التحذير السريع لأيّ موقوفٍ جديدٍ من عدم التفوّه بشيءٍ أمام هذا الواشي. في الوقت نفسه الذي يتلقّف فيه نزلاء الزنزانة القادمين الجدد ليعرفوا أخبار ما يجري في الخارج، وليطمئنوا، يوماً بعد يومٍ، ولا سيما في أيام الجمع، التي يكثر فيها عدد الموقوفين؛ إلى أن الاحتجاجات تعمّ البلاد. وليعلموا أن صرختهم الوجلة والواهنة لم تذهب في وادٍ، وأنهم لن يتعفنوا في الأقبية لسنواتٍ. إذ اضطرّت الأجهزة الأمنية، تحت ضغط الأعداد المتكاثرة للمشاركين في الانتفاضة، إلى الإفراج عن أفواجٍ من المعتقلين، بعد توقيعهم على تعهّدٍ شكليٍّ بعدم تكرار التظاهر، أملاً في تطويق الوضع، وبالنظر إلى الأعداد الكبيرة من الموقوفين الجدد الذين غصّت بهم الفروع.

ويلحظ المؤلف هنا الفرق في التعامل بين عناصر الأمن أنفسهم، بين من تلمح لديهم ملامح من الإنسانية التي يخشون من إظهارها كي لا يُتّهموا بالتساهل أو التعاون (لم تكن ظاهرة الانشقاقات عن الجيش أو الأمن قد ظهرت بعدُ)، وبين من يتطوّع برغبته المرضيّة الشخصية لزيادة عذاب المعتقلين، فيعمل فيهم الضرب الحاقد أثناء خروجهم إلى الحمّامات، دون أوامر ولا سببٍ سوى العفن المترسّب في قاع هذه الأجهزة القاتلة للضمير.

كما يُعيدنا المؤلف إلى أجواء اضطراب وتجاذب الاعتقالات السورية الأولى أثناء الثورة، بين الأهل الذين يميلون إلى عدم نشر أي خبرٍ يتعلّق بأبنائهم الموقوفين، خوفاً عليهم، وتسهيلاً لعمل مساعيهم الخاصّة للإفراج عن هؤلاء الأبناء، وبين رغبة الأصدقاء في أداء ما يرون أنه واجبهم تجاه الموقوف، بنشر الخبر، وتحويل قضيته إلى قضية رأيٍ عامٍّ، كي لا يتحوّل إلى رقمٍ ينسى في الزنازين، وكي يشعر –إن عرف بطريقةٍ ما- أنه ليس وحيداً في محنته. كما حدث مع صاحب هذه الشهادة، إذ استشعر المطالبة بالإفراج عنه حين سأله المحقق: "شو يا ديبو، حابب تكون مشهور؟!". ثم غمره الفرح حين تأكد من ذلك عبر موقوفٍ جديدٍ من داريا، قرأ المطالبة على صفحة المحامية رزان زيتونة على الفايسبوك. ومن جهةٍ أخرى، أنعش هذا الموقوف الزنزانة حين حمل إليها الأغنية الجديدة الرائجة... "زخّ رصاص على الناس العزّل... يا حيف!".