- Home
- مقالات
- ترجمة
في شوارع دمشق قالت رزان زيتونة ببساطة (ارحل الآن لأنك تعرف أنك سترحل في النهاية لكن مع مزيد من الضحايا)
هذا النص مقتطفات من كتاب "على كل الجبهات: تعليم الصحفي" للصحفية كلاريسا وورد، نشرت في مجلة NEWLINES
4 تشرين الأول 2020
ترجمة مأمون حلبي
كنت أرسل تقاريري الإخبارية من العاصمة السورية عندما أصبحت حركة احتجاجية سلمية تمرداً مسلحاً. هنا أقدم مشاهداتي
نظرت إلى تلاطم أمواج المشيعين وهم يتحركون نحوي؛ كان ثمة تابوت مرفوع على راحات المشيعين، تلمسه وتباركه ألف يد وهو يتمايل في الشارع، كان الرجال الذين يحملونه يتعرقون رغم الظهيرة الباردة؛ وقع بصر بعض المحتجين علي وعلى كاميرتي، بينما كنت أحاول اللحاق بالموكب، فأفسحوا لي طريقاً للمرور. كانوا يريدون لقصة مقاومتهم أن تُحكى.
شققت طريقي عبر الحشد وصعدت إلى شاحنة صندوقها بلا حواف، تتقدم ببضعة أمتار التابوت الذي كان مغطى بعلم الثورة السورية. "لا أستطيع أن أفسد هذه اللقطة، لا أستطيع أن أفسدها"، هكذا همست لنفسي.
كان ثمة فتى ممدد في التابوت، في ربيعه السادس عشر عندما أرداه رصاص قوات الأمن في اليوم السابق، فأصبح الفتى لحظتها آخر شهيد للثورة التي كانت تنمو وتكبر بشكل سريع ضد نظام الأسد الابن. أخذت نفساً عميقاً ووازنت كاميرتي على سطح صندوق الشاحنة، تحدوني الرغبة بأن تبقى يداي ثابتتين كل الثبات مع اقتراب التابوت، حينها استطعت أن أرى وجه الفتى الميت.
كنت لوحدي في دمشق في أول مهمة لي كمراسلة ل CBS NEWS. وبما أني أحمل جنسيتين ولدي جواز سفر بريطاني، فقد استطعت الحصول على فيزا سياحية، لكن المنتج المرافق لم يستطع الحصول على الفيزا، وبالتالي لم يكن لدي مصور مرافق. كان لدي تجربة بسيطة للغاية بتصوير الفيديوهات، ولم أقلل من مخاطر الشروع بمهمة كهذه، إذ يمكن لصحفي مسافر دون رفيق أن يختفي بكل سهولة، لكني كنت قد زرت سوريا عدة مرات من قبل، وكنت أتكلم العربية بما يكفي لأن أتجول هنا وهناك لوحدي. كنت متشوقة لتغطية الانتفاضة السورية التي كانت تتوسع بشكل سريع، وتقترب من لحظة مفصلية يطغى عليها العنف.
أحضرني ناشطو المعارضة إلى مدينة دوما لأغطي الجنازة، كان قد مضى على وجودي في دمشق بضعة أيام قبل أن أتمكن من الإفلات خلسة من الفندق، ومن رجال الشرطة السرية الذين لا يفارقون المكان، كي أنضم إلى أولئك الناشطين.
تدفق مئات الناس إلى موكب الجنازة من كل الاتجاهات، كانت النسوة يمشين معاً في آخر الموكب. صفوف وراء صفوف من المشيعين كانت تلوّح برايات عليها شعارات تطالب بالعدالة والإطاحة بنظام بشار الأسد؛ شخص ما بدأ يقرع طبلاً، ورفع الحشد على أكتاف رجل فتى أخذ يبادر بالهتاف: "يا بشار يا كذاب، تضرب أنت وهالخطاب، الحرية صارت عالباب"، والحشد يهتف مردداً وهو يصفق: "يلا ارحل يا بشار". كان هذا الهتاف قد أصبح نشيد الثورة.
عاينت بحر البشر الذين كانوا يهتفون وأياديهم ترفع الهواتف الخليوية لتوثيق الحدث وبثه على وسائل التواصل الاجتماعي؛ كانت أجواء تشرين الثاني الندية تضج بعنفوان وإثارة أصواتهم التي أصبحت أعلى فأعلى، وأصبح تصفيقهم مرعداً أكثر فأكثر، أخذت قدمي تخبط الأرض بتوافق مع قرع الطبل. كان الأمر في غاية الإثارة.
منذ أن بدأ الربيع العربي في وقت أبكر في تلك السنة -مطيحاً بدكتاتوريات عمرها عشرات السنين في تونس ومصر وليبيا- وهؤلاء المحتجون ينتظرون ساعتهم. استغرق الأمر مني أسابيع من البحث والاتصالات عبر سكايب لإقامة علاقات مع المعارضة السورية، التي كانت مع نهاية عام 2011 تتعرض لهجمات شرسة من النظام. كان قد تم رمي عدد كبير من الناشطين في السجون أو اختفوا ببساطة؛ قصص الانتهاكات الفظيعة والتعذيب آخذة في الانتشار وقتذاك.
طيلة الأيام الأولى كنت أمثل دور السائحة. ثم ذات صباح، ارتديت حجاباً وخرجت متسللة من الفندق، لأفلت من النظرة المراقبة لرجل الشرطة السرية الذي لم تكن سيكارته تنطفئ؛ كنت حريصة على التأكد أن لا أحد يتعقبني وأنا أتجول ببطء في شوارع دمشق في طريقي لمقابلة ناشط يدعى أحمد، سبق وتعرفت إليه عن طريق ناشط آخر من خلال شبكة الإنترنت؛ في الليلة التي سبقت لقائي به سهرنا حتى وقت متأخر عبر السكايب ونحن نناقش أين ومتى سنتقابل، وافقت أن آتي وأجده في باب توما في الساعة الثامنة صباحاً، وقد أقمت معه طوال الأيام الخمسة اللاحقة.
وجه أحمد دائري وباسم تكسوه لحية خفيفة دائمة، وكان يرتدي نفس البيجاما الرياضية والنعل البلاستيكي كل يوم؛ كان منتشياً لكونه جزءاً من ثورة، حاله في هذا كحال عدد كبير من الناشطين الذين قابلتهم في ذلك الٍأسبوع؛ في أوقات المساء كان يأخذني لألتقي بأصدقائه في شققهم، كان معظمهم متعلمين ومتكلمين واثقين، خليطاً من المسلمين السنة والمسيحيين والعلويين؛ فيما بعد سترتدي الثورة لونا إسلامياً بوضوح، لكن تلك الأيام كانت أيام النشوة المبكرة التي تضج بروح مثالية. كنت أجلس برفقتهم، أراقبهم وهم يدخنون سيكارة وراء الأخرى، ويتكلمون حتى وقت متأخر من الليل عن شكل ثورتهم، كانوا يتكلمون بعاطفة جياشة عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومع ذلك كان بإمكان المرء أن يتبين أنهم كانوا يمتلكون فهماً قليلاً للأسس والمؤسسات الضرورية لبناء وتغذية هذه المثل.
عرَّفني أحمد على رزان زيتونة، وهي شخصية أساسية في الحركة الاحتجاجية؛ كانت رزان تدخن دون انقطاع عندما كانت تتكلم، ونادراً ما كانت تبتسم، كانت تنتمي لمجموعة مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها أحمد وأصدقاؤه. كانت محامية ومضى عليها سنوات كناشطة في سوريا قبل أن يبدأ الربيع العربي؛ لديها ما يكفي من الحس السليم لتعرف كم كانت المخاطر حقيقة، وكان النظام السوري يتتبع تحركاتها منذ بعض الوقت، أما هي فكانت تقيم في مكان سري لتتجنب الاعتقال. ذات يوم ونحن نحتسي الشاي معاً في شقة أحمد سألتها: "هل أنت خائفة؟" فأجابت بواقعية باردة وهي تأخذ نفساً عميقاً من سيكارتها: "من منا ليس خائفاً؟، لكن علينا أن نستمر. لقد قررنا أن نبدأ ثورتنا. هذا ما كنا نحلم به منذ أمد بعيد". نظرت إلي وهي تطفئ عقب سيكارتها: "هيا بنا، فلنذهب".
كان قد سبق لرزان وأحمد أن أخذاني إلى الجنازة في دوما، وإلى الاحتجاجات التي كانت تزداد انتشاراً أكثر فأكثر في أيام الجمعة؛ بعد ظهيرة أحد الأيام أخذاني لمقابلة شبكة أطباء أقاموا عيادات ميدانية تحت الأرض لمعالجة جرحى الاحتجاجات؛ شجاعة وتصميم المعارضة التي نأت بنفسها في تلك المرحلة عن العنف بالرغم من وحشية النظام، كانا ملهمين، لكن مع نهاية 2011 بدأت الاحتجاجات تفسح مجالاً للمقاومة، وبدأ يتشكل تمرد مسلح. لا يمكن للقوة أن تواجَه إلا بالقوة.
في الجنازة التي حضرتها في دوما أتى إلي رجل يحمل لافتة مكتوب عليها: "الجيش السوري الحر يمثلني ويحميني"؛ كان لدى رزان وأحمد وجهات نظر مختلفة حول تأسيس الجيش الحر: أحمد يشدد على أن الدور الوحيد لهذه الميليشيا هو تشكيل طوق حول المظاهرات وحماية الناس، "أعتقد أن هذا حق ضروري الآن"، أما رزان فقد كانت مرتابة جداً من هذه الناحية.
في وقت متأخر من إحدى الليالي، عرض أحمد أن يرتب لي لقاء مع عناصر من الجيش الحر فوافقت؛ أعادني أحمد بالسيارة إلى دوما، ومن هناك ركبت سيارة أخرى مع رجل اعتذر قبل تطميشي، معللاً ذلك بضرورة ألا أعرف موقع البيت الآمن الذي ستجري فيه المقابلة؛ لم يُمسح لأحمد بالقدوم معي. وبعد حوالي عشرين دقيقة توقفت السيارة، وساعد شخص ما في إرشادي إلى داخل المنزل، وتم رفع الغطاء عن عينيّ؛ كان يقف أمامي دزينة من الرجال بملابس عسكرية، ووجوههم مغطاة بكوفيات، شعرت بجفاف في فمي، كنت أعي تماماً كم كان أولئك الرجال صيداً ثمينا لقوات النظام، وتوقعت إلى درجة ما أن تدخل البيت مجموعة من قوات الكوماندوس الحكومية في أي لحظة؛ بدأ قائد مجموعة الرجال يتكلم: "إننا نقاتل أولئك الذين يتموا أطفالنا ورملوا زوجاتنا"، سألته إن لم يكن قلقاً أنه بعسكرة النزاع سيتأذى مزيدٌ من الناس، فرد علي قائلاً "نحن لم نختر الذهاب إلى الحرب، فالحرب قد فرضت علينا لحماية شعبنا وشرفنا"؛ وبينما كنا ننهي المقابلة، أشار إلي أحد المقاتلين للاقتراب منه، كان يمسك بيده صورة لفتى صغير مبتسم بوجنتين مكتنزتين وشعر بني أجعد: إنه ابنه، "هذا ما نقاتل من أجله، نقاتل كي يحظى بمستقبل أفضل". هززت رأسي ببطء موافقة، كان إخلاصه واضحاً، كان من الواضح أيضاً أنه لم يكن لدى المقاتلين استراتيجية واضحة، وأنهم كانوا ثائرين ضد عدو لا يرحم.
في ليلتي الأخيرة في دمشق أطبقت عتمة شاملة على المدينة، وهي إحدى العلامات الصغيرة الكثيرة أن الأمور لم تكن على ما يرام في العاصمة؛ جلسنا أحمد ورزان وأنا في العتمة في غرفة المعيشة في بيت أحمد، عُدت بتفكيري إلى ذلك الصباح عندما سألت رزان إن كان لديها رسالة لبشار الأسد.
"ارحل!" قالت ببساطة. "ارحل الآن لأنك تعرف أنك سترحل في النهاية لكن مع مزيد من الضحايا ومزيد من معاناة الناس، لذا ارحل ودعنا نبدأ مستقبلنا الجديد وبلدنا الجديد، لقد أخذت ما يكفي من دمائنا". لكن الأسد لم يرحل، وفي غضون سنتين من تلك الرحلة إلى دمشق، سيسجن أحمد وستختطف رزان من قبل مسلحين، ومنذ ذلك الوقت لم تصل أي أخبار عن أي منهما.