في دير الزور، حيث يحارب التحالف داعش بقتل الأبرياء

في ساعات القصف تكاد دير الزور تتحول إلى قطعة من الجحيم. حينها لا مفر سوى الاستسلام للقدر، فاحتمال الموت واحد مع القنابل العمياء والضمائر الميتة.

الاعترافات الأميركية بالخطأ، بعد المجازر التي ترتكبها طائرات التحالف بين وقت وآخر في حق السكان المدنيين في دير الزور، لا تعني شيئاً لأحد، لأنها لن تعيد للقتلى المظلومين حياتهم ولن تحاسب القاتل ولن تحول دون وقوع الخطأ مرة أخرى. في الأربعين يوماً الأخيرة، حسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، قتل في مدينة الميادين وحدها 240 شخصاً من المدنيين، كان آخرهم قبل أيام حين دمرت طائرات التحالف سجناً سرياً لداعش بمسجونيه. أربعون سجيناً بتهم أمنية مختلفة قضوا بغارة التحالف تلك، إلى جانب حراس لا يشكل مقتلهم خسارة مؤذية للتنظيم. في اليوم التالي أكملت داعش المشهد الوحشي بعرض جثث السجناء في الشارع بحجة أن يساعد المارة والمتفرجون بالتعرف عليهم، ثم، وبعد أن ظلوا مجهولي الهوية لساعات، دفنوا على عجل في قبر كبير واحد. داعش تعرف من هم مسجونوها بالطبع، لكنها استكثرت على ذوي القتلى أن يعلموا شيئاً عن مصير أبنائهم، بل استخدمتهم في دعايتها ضد التحالف الذي لا يميز «بيننا وبينكم، فكلنا مسلمون» حسب ما يقول الدواعش في تأليب الناس لصالحهم. على الأرجح، كان التنظيم سيعدم ضحايا السجن لو ظلوا أحياء، لكن التحالف كان أسرع في قتلهم. قبل يومين، في بلدة دبلان شرق دير الزور، قتل بقصف ليلي ممتد لطائرات التحالف أكثر من 30 شخصاً حسب المرصد، ونقلت صفحات محلية أعداداً أكبر، فضلاً عن أضعافهم من الجرحى، بعضهم سيظل بعاهات دائمة.

هل يبذل ما يكفي من الجهود لتجنب سقوط أبرياء؟ قد يكون توزع مقرات داعش وإقامة قادتها بين الناس سبباً يفسر جزءاً من المشهد الدامي، لكن أسباباً أخرى بلا شك تسهم في هذا الاستهتار الوقح بحياة الناس، من جانب التحالف ومن جانب من يرشد الطائرات إلى أهدافها الداعشية على الأرض. يلفت بديع الراوي، وهو ناشط من دير الزور، إلى ملاحظة أثارت انتباهه في حادثة السجن السري وحوادث أخرى، أخلى فيها قادة من داعش بيوتهم فجأة قبيل الغارات التي ستستهدفها: «عميل مزدوج يعمل لحساب الطرفين، داعش والتحالف في الوقت ذاته». ويلفت إلى استعمال داعش هؤلاء العملاء لتضليل طائرات التحالف: «فمن حذّر هؤلاء القادة من غارة محتملة على بيوتهم؟». بينما يذكر أسماء طبيب وممرضين قتلوا بغارة للتحالف على مشفى ميداني في قرية جديد عكيدات. في تحقيق لجريدة الفايننشال تايمز نشر مؤخراً عن شبكات مرشدي التحالف، نقلت الجريدة على لسان شاب عمل في هذه الشبكات عبارة سمعها من رئيسه حين أبدى الشاب غضبه لسقوط ضحايا مدنيين: «من يعمل في هذا العمل عليه أن يضع قلبه وضميره تحت حذائه».

في المساحة الأضيق من المحافظة، بين بلدتي البوليل والقرى الأولى في الريف الغربي مروراً بمدينة دير الزور، وهي المساحة المخصصة حسب ما يبدو لطائرات النظام وحلفائه الروس، لم يسهم انخفاض عدد السكان، بسبب موجات نزوح سابقة، في تقليص عدد الضحايا، إذ ارتفعت مؤخراً وتيرة الغارات الجوية وأشكال القصف الأخرى عما كانت عليه في السابق. وتحمل الأنباء المتواترة من هناك كل يوم وآخر أسماء قتلى فرادى أو جملة، أم وأب وأطفال، جدة مع أحفادها ناموا في منزلهم ليلاً وأصبحوا قطعاً ممزقة. المذهل مع كل هذا الموت في دير الزور أن تصير هدفاً لنازحين من أراض تخسرها داعش في سوريا والعراق.

يوماً بعد يوم، تضع داعش عوائق جديدة أمام من يفكر في الهروب خارج سيطرتها شمالاً، إذ تنفذ حكم الإعدام بأدلاء الطريق المأجورين (المهربين)، وتعاقب من يقبض عليه أثناء محاولة الهرب بمائتي جلدة بتهمة «الشروع بالردة»، ثم بدورة شرعية مغلقة لأربعين يوماً لإعادة التأهيل. وبمزيد من الحواجز والكمائن والمخبرين تضيق فرص النجاة حتى أمام المغامرين وأمام القلة الذين يستطيعون تحمل نفقات الرحلة ومشقة السير لأيام على طرق زرعتها داعش بالألغام الأرضية. يقول ناجون من رحلة الموت هذه إنهم شاهدوا على الطريق بقايا عظام بشرية وجثثاً متفسخة تأكل منها الكلاب، تعود لهاربين سابقين تاهوا في الصحراء وماتوا جوعاً أو عطشاً أو بالألغام.