فساد المؤسّسات الطبية في مناطق سيطرة النظام

دخلت تحمل مريولها الأبيض إلى قاعة التشريح في كلية الطب بجامعة دمشق. وقفت أمام الجثة، شعرت أن شيئاً غير طبيعيٍّ ينتابها. وقف أستاذ المادة ابن الخمسين عاماً ليتحدث بلغةٍ تظهر فساد مؤسّسةٍ أكاديميةٍ عريقةٍ يفترض أن تعمل وفق أسسٍ وقواعد أخلاقيةٍ تتناسب ومكانتها في المجتمع. الجثة التي كانت خولة تنظر إليها هي جثة أخيها المغيّب في سجون النظام منذ ثلاث سنوات. نعم، لا يمكن أن تخطئ وجهه.

في كل دول العالم تستخدم كليات الطب جثثاً حقيقيةً لتدريب طلابها، بعد أن يوصي المتوفى باستخدام جسده لصالح الأبحاث العلمية. وكانت الجامعات السورية قبل الثورة تعتمد على استيراد الجثث من بعض الدول، وعلى جثث مجهولي الهوية التي تأتيها من النيابة العامة، بعد إجراءاتٍ قانونيةٍ عدة. أما الآن فيتحدث النشطاء عن فسادٍ كبيرٍ في هذه المؤسّسات الأكاديمية التي بدأت تتعامل مع الفروع الأمنية لتستقبل بعض جثث القتلى في هذه الفروع، دون احترام أدنى الحقوق والمبادئ الأخلاقية التي من المفترض أن تتحلى بها المؤسسات التعليمية. ومن هنا برزت قصة خولة مع جثة أخيها، والتي تحدثت عنها وسائل إعلام كثيرة، وقامت وسائل إعلام النظام بتكذيب الحادثة دون إيراد أي دليل.

وفي ظل الفوضى الحالية استشرى الفساد في جميع مفاصل القطاع الصحيّ في مناطق سيطرة النظام. ومن مظاهر ذلك البادية للعيان بيع الأدوية المجانية التي تقدمها منظماتٌ عالمية، أو تقوم وزارة الصحة بشرائها لصالح المستوصفات والمشافي لتقدّم للناس بالمجان. إذ أصبحت هذه الأدوية تنتقل إلى منافذ البيع في الصيدليات، وخاصةً الأدوية مرتفعة الثمن، لتضاعف الأعباء المادية على المرضى. فالأنسولين، الذي يحتاجه مرضى السكري بشكلٍ دائم، قلت كمياته بشكلٍ كبيرٍ في مستوصفات مدينة اللاذقية حتى انعدم في الكثير منها.

قال لنا أبو علي (51 عاماً)، وهو مريض سكريّ: «منذ عدة شهور لم نستطع الحصول على مخصّصاتنا من مادة الأنسولين، ودائما حجة العاملين هناك أنه لا يوجد لدينا ما تطلبون. وعند ذهابي إلى مركز زوان، الموجود قبالة مستشفى العثمان في اللاذقية، وجدت في المركز كمياتٍ كبيرةً من الأنسولين، هي ذاتها التي كانت توزع مجاناً قبل عدة شهور، بنفس الزجاجة والعلبة التي اعتدنا استلامها من المراكز الصحية. الآن نشتري الزجاجة بـ5 آلاف ليرةٍ سورية. وتتم تغطية السرقات في المراكز الصحية من خلال توقيع بعض المرضى على كمياتٍ معينة، لا يتعدى ما يستلمونه منها ربع ما وقعوا عليه. والذي يرضى بهذا الأسلوب قلةٌ ممن هم مضطرّون».

ويتعدى الفساد في هذا القطاع بيع الأدوية المجانية ليصل إلى المشافي العامة التي يعاني مراجعو أقسام الإسعاف فيها من إهمالٍ واضحٍ وتغيّبٍ متكرّرٍ -ودائمٍ في بعض الأحيان- للأطباء المختصين، الذين يمارسون عملهم في عيادتهم الخاصة على حساب الوقت المخصّص للمناوبة في المشافي. ففي مشفى المجتهد بدمشق يقوم الممرّضون بمعاينة بعض المرضى نيابةً عن الأطباء، وخاصّةً في الجولات المسائية المخصّصة لمعاينة المقيمين في المشفى، فعلى الغالب تقوم بهذه المهمة ممرضاتٌ بتفويضٍ من الأطباء المفترض أن يكونوا مناوبين.

أبو محمود سائق سيارة إسعافٍ في مشفى المجتهد، قال لنا: «الفساد مستشرٍ في كلّ مفاصل المشفى، وعلى عين الجميع. المتنفذون في المشفى يستخدمون سيارات الإسعاف لأغراضهم الشخصية. وغالبية الكوادر الطبية تسرق، وعلى الغالب تكون المسروقات من الأدوية والمواد التموينية من المطبخ. ويمرّ أغلب الكادر الإداريّ -قبل أن يخرج عند انتهاء الدوام- على المطبخ ليأخذ حصته التي تكون على الغالب لحمة أو فروجاً أو مواد تموينية..».

ولعبد المعين، وهو مدرّسٌ متقاعدٌ من سهل الغاب، قصةٌ أخرى. فوفق نظام التأمين الصحيّ للمعلمين يتمّ التعاقد مع أطباء محدّدين لمعالجة المرضى المشمولين بالتأمين واستيفاء 10% فقط من قيمة الكشفية التي تتراوح الآن بين 2000 و4000 ليرة. لكن ما يحصل عند الأطباء المتعاقدين مع الصحة المدرسية في مدينة السقيلبية مختلفٌ تماماً، إذ صار هؤلاء يجبرون المعلمين على دفع كامل الكشفية والتوقيع على دفتر الصحة المعتاد في الوقت نفسه، قبل الكشف عليهم.

أما خولة، طالبة السنة ثانية طب، فتقول: «أكثر شيء حرق قلبي هو استهزاء طبيب التشريح من جثة أخي عندما قال «جبت لكم جثة طازجة ما باس تمها غير أمها»، الأمر الذي دفع الطلبة للضحك. فما كان مني إلا أن تظاهرت بالإغماء حتى يخرجوني خارج القاعة كي لا أشاهد المشارط كيف تخترق جسد اخي وقبل أن تكشف دموعي أمري وعندها لن أسلم من الفروع الأمنية».