- Home
- مقالات
- رادار المدينة
عشرية الثورة.. الأسد مهزوم بالتكوين
الاستهلال الواجب هنا، تفرضه وقائع معقدة ومتداخلة، تحيل كيفما حاول المرء معالجتها إلى استنتاجات لا تقل إرباكاً.
يجب التوضيح مسبقاً؛ أنّ ما سيلي ليس محاضرة في التفاؤل، وهو قطعاً ليس دعوة إلى التشاؤم، كما أنه لايمثل ادعاء للعقلانية الثورية – إن كان هناك ما يمكن وصفه بهذا الاصطلاح - بل هي محاولة قراءة على هامش الحدث الذي يثير رقمه المدور (10) كالعادة شهية إطلاق العنان للتحليلات النهائية والأحكام القاطعة.
حرية وبس
عشر سنوات كاملة على انطلاق مظاهرة سوق الحميدية؛ التي ما يزال الخلاف يدور حول ما اذا كانت الحدث التأسيسي للثورة السورية، ضمن سجال 15 – 18 السنوي الشهير.
جرت أنهار من الدماء، سحقت مدناً وأرياف كاملة، تشرد نصف السكان، وتعرض السوريون حرفياً إلى حرب إفناء؛ قادها بشار الأسد؛ وحوّلت سوريا إلى "وطن مجذوم" ينفر منه الجميع، ويتساقط قطعاً شوهاء، وسط برود عالمي متزايد تجاه أشنع ما ارتكب من جرائم ضد الانسانية منذ "الهولوكوست" النازي.
الاستعراض التفصيلي لما جرى، ليس هو ما تسعى هذه السطور إلى استعادته، وهو في مطلق الأحوال أمر تنوء به مجلّدات كاملة، قد تحيل قارئها إلى اكتئاب عميق لا قرار له.
لنحاول إذاً رسم صورة آنية للمعادلة التي يبدو – ظاهرياً – أنّ الأسد وحلفاءه الروس والإيرانيين وطقم المليشيات الإرهابية التي يستخدمونها، قد حققوا "نصراً" عسكرياً واضحاً فيها.
هل تحقَّق هذا "الظاهر" كي يمكن استبطان الإحساس بالهزيمة النهائية، وإطلاق العنان لليأس الأبدي؟
لا لم يحدث
ثمة في كل حرب معادلة لا بد أن تتحقق وتستقر كي يمكن وصف نتائجها بأنها "نهائية"، وفي سوريا لا توجد حسابات حاسمة لمجاهيل هذه المعادلة، بل إنّ هذه المجاهيل تبدو غير معينة في جوهرها غالباً.
المصفوفة
مالذي يجعل "الجذام" الوطني السوري، غير قابل ليكون واقعاً نهائياً؛ رغم قسوته المفرطة ووضوحه التام وآثاره المدمرة؟
سيكون كذلك لو كان خندق الأسد مغلقاً وقادراً على انتاج أيّ نمط من إدامة واقعه، لكن الحقيقة هي أنه يتداعى ويتآكل، وبين الشبيحة – المذعورين والانفعاليين والمنقادين والمنظرين والقادة – أنفسم لا يوجد من لا يزال قادراً على استنتاج أي معنى لـ"انتصار" الأسد.
بوضوح وعلنية، باتوا يتذمرون، ولم تعد جدران الملصقات المتخمة بصور أبنائهم القتلى قادرة على شحذ همة ولائهم، وبينما هم جزء من مجتمع كامل تتمنى غالبيته بصمت الخلاص من طاغية الشام، فإنّهم يتمايزون في اعتقادهم الراسخ أنّهم دفعوا ثمن "انتصار" تتباهى به مواقع إخبارية روسية وإيرانية وعراقية ولبنانية، دون أن ينالوا مقابلاً سوى استطالة طوابير الخبز والوقود، وزيادة ساعات العماء اليومية في حلكة غياب ترف الكهرباء.
وثمة "محدد" إضافي لهذه المصفوفة القاتمة، هو انقلاب ذهني في توصيف من "تشحطه" مخابرات الأسد، إذ بينما كان المعترض قبل سنتين أو ثلاث "خائناً" يجب أن يلتحق بـ"الفوار" في السجون، بات الأمر الآن يثير الاستغراب في صفوفهم باعتباره سلوك نكران من النظام تجاه من دعموه في ضعفه.
لا يمكن أن تظل "منتصراً" كحدث مجرد.. هناك نتائج يتوخاها رهط المنتصرين وما لم تحدث فستذوي الشعارات، عندما يبدأ الشبيحة "العملانيون" في تحصيل فوارق دخل التعفيش المتهاوية من جيوب حاضنتهم الشعبية "الصامدة".
حتى في الخندق، هناك ضرورة للبقاء، وهناك حاجة للطاقة كي يمكن الخروج منه يوماً والاحتفال بـ"النصر"... كيف تحتفل بما لا تراه ولا تشعر به؟ كيف تحتفل مجدداً بتجريف الغوطة وأنت لا تجرؤ على سؤال بائع عن سعر ما بقي متاحاً من حرستا؟.. عفواً البطاطا
مجهول ومعلوم
خسرت حاضنة الثورة الكثير، خسائرنا مهولة وجذرية وعميقة في البنية وقد لا يمكن إصلاحها قبل عقود طويلة. لكن جردة المجاهيل والمعاليم في هذا المعادلة قد تعطي منطقاً آخر لحلها.
كيف؟
في الحرب يخسر الطرفان، أحدهما بقراره وكرامته - التي تثير سجالاً آخر هذه الأيام – والآخر بقراره ومذلته، وكي يكون الأمر واضحاً يجب التوكيد هنا أنّ الغالبية الصامتة التي تئن تحت ضغط الفقر والإرهاب ليست جزءاً من خندق الأسد.. هم أسرى حرب يبتز معسكر "الجذام" العالم بمعاناتهم ويسعى جاهداً ليكونوا هم الجزء الذي يتهاوى من جسد سوريا كل مرة.
ثمة في واقع سوريا المنفلش حول العالم هذه الأيام أجيال تعلمت في المنافي أنماطاً أخرى من الحياة، وتلقت تعليماً مغايراً؛ وهي من سيكون ممكناً كاحتمال أن تتولى إعادة تكوين سوريا مغايرة، مهما بدا في بعض أوساط اللاجئين الأكبر من علامات يأس وعدمية تعودنا الاستماع بها كحل لتناقض مزمن بين أحلامنا وواقعنا في سوريا قبل الثورة.
سيبقون بغالبيتهم في أوطانهم الجديدة... لا شك
لكن إغراء ما بعد الأسد سيكون أرضاً خصبة لتجربة نجاحات جديدة قد تجر البعض أولاً والكثير لاحقاً إلى سوريا التي ستكون قد شفيت من جذامها الأسدي. وبنطق مصلحي بحت هم لا يسعون إلى سوريا "ثورية" بل إلى سوريا "ثرية"، لا تجرهم حبال النوستالجيا الحزينة إلى اعتيادات مزقتها الحرب، بل تقودهم جسور الممكن والفرصة إلى بلد لا يسوطهم الحنين إليه.
متراجحات الهزيمة
مازال ممكناً التنظير بالفشل، هذا متاح دائماً وسهل للغاية، ومريح إلى حد التملص من تبعات الاستمرار في المطالبة بالحقوق.
لكن الحرية ستظل هي النظام المؤسس لكل أمة نجحت في خلق مصير أفضل من مآسيها. لسنا أول الشعوب - ولن نكون آخرهم – التي سحقت حياتها على يد طغمة من القتلة الإرهابيين حين طالبت بحياتها وحريتها.
التاريخ حافل بالمقارنات الناجحة والفاشلة، غير أنّ الثورات والحروب الأهلية حالات متفردة في خصوصياتها دائماً، وبينما تبدو أوضاعنا الحالية مثيرة للاكتئاب واليأس في ظاهرها وعمقها، إلا أنّها تنطبق على من يريدون الالتزام بدور المهزومين، وعلى من يبحثون عن معنى لما يجعلهم منتصرين، بينما سيحدد مآلها أولئك الذين يعتقدون أن الحرب قائمة.
لأن الأمر ببساطة هو أن الأسد مثل أبيه.. مهزوم بالتكوين.