لم أتردد أبداً في الموافقة على دعوة إدارة إحدى المدارس الابتدائية، في القرية التي ولدتّ فيها ونزحت إليها في أُولى حلقات مسلسل النزوح المستمرة حتى هذا الوقت، لسدّ النقص في الكادر التدريسي، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، والانطلاق في العام الدراسي. الأسباب التي دفعتني للموافقة كانت كثيرة، تبدأ من شعوري بالمسؤولية تجاه هؤلاء الأطفال الذين يعني ابتعادهم عن المدارس بداية انحدارٍ لا يعلم أحد نهايته. كما أني في تلك الفترة، أواخر 2012 وبداية 2013، تركت عملي كـ موظف حكومي، ومثّلتْ لي تلك الدعوة فرصة لملء الفراغ الذي كنت أعيش فيه.

في صف الثاني الابتدائي، الذي تم تكليفي بتدريسيه، حدث خلاف بين الطلاب حول هوية عريف الصف. الطلاب كانوا يستبدلون أسنانهم اللَبنية بأسنان ستبقى معهم كل العمر، وبنفس الوقت كانوا يستبدلون براءتهم بعادات أهل القرية التي تعتمد على العنف، وفرض القوي رأيه على الضعيف. لم أكن لأقف مكتوف اليدين أمام ذلك المشهد؛ أنا الذي كانت أفكاري وأحلامي الثورية ذلك الوقت في أوجها، فقررت القيام بانتخابات بين الطلاب لاختيار عريف الصف ونائبه. كانت فرصتي لأملأ في صفحاتهم البيضاء مبادئ احترام الآخرين، وتقبّل الآراء المخالفة، وسيادة القانون، الذي بالمناسبة كنت أمثله كأستاذ، قبل أن يملأها أصحاب الأفكار السوداء الذين راحوا منذ ذلك الوقت يتسابقون لغسل أدمغة الأطفال والمراهقين لصالح مشاريعهم. 

كانت، ولازالت، مشاركتي في أي انتخابات حقيقية حلماً لا أظن أنه سيتحقق يوماً. ولطالما شعرت بنفسي كاليتيم الذي يشاهد حفلة عيد ميلاد ابن الجيران، وأنا أتابع أخبار أي انتخابات حرة تجري في هذا العالم اللئيم الذي لا يُلقي بالاً لأيتامه. كانت فرصة تنظيمي لانتخابات حرة في الصف الثاني، في إحدى مدارس قرى ريف حلب، هي ذاتها عيد الميلاد الذي قام به ذلك اليتيم بعد انتهاء حفلة الجيران، ولم يشاركه فيها إلا ألعابه.

​بدأت الانتخابات بالطلب من الراغبين بالترشَح لمنصب العريف رفعَ أيديهم للنظر في طلبات ترشيحهم، ولا غرابة أن كل الصف كان راغباً بالترشّح، فكل سكان هذا البلد يرى في نفسه قائداً. كان عليَ التدخل باعتباري «الدستور»، وقبولِ أربعة طلبات فقط ممن تتوفر فيهم الكفاءة لشغل هذا المنصب، كـ قوة الشخصية والمستوى الدراسي الجيد، مع مراعاة تمثيل كافة الأحزاب السياسية في الصف. في الحقيقة لم يكن في الصف إلا حزبان تشكّلا على الفور بعد الإعلان عن إجراء الانتخابات. حزب البنات وحزب الأولاد. المرشحون زهرة وحلا من حزب البنات ومحمد ومشعل من حزب الأولاد.

في مرحلة التصويت طلبت من الطلاب اختيار مرشحهم، كلاَ على حدة. بينما رحت أوزَع الأصوات على قوائم المرشحين في السبّورة. تلك كانت هفوة لم أنتبه لها إلا لاحقاً، فالتصويت العلني أَثَر على قرارات بعض الناخبين. حزب البنات صوَت بالكامل لمرشحتيه زهرة وحلا، فنالت حلا تسعة أصوات مقابل ستة لزهرة. حزب الأولاد كان أكثر دهاءً، وتميَز بتقديم المصلحة الحزبية على المصالح الشخصية. فالكل اتفق على التصويت لـ مشعل كي يكون العريف من حزبهم، وهذا ما كان بعد إعلان النتائج. لم يشذَ عن هذا الاصطفاف الحزبي إلا أحد الطلاب الذي فاجأ الجميع بالتصويت لحلا. لم أعرف إذا كان ذلك الطالب يجد بـ حلا الأجدر بالمنصب، متجاوزاً المصالح الحزبية، أم أنه كان معجباً بجمالها.

​تم تخيير العريف مشعل بشأن نائبه، ففضّل مشعل اختيار حلا لهذا المنصب، كي يشكل ائتلافاً يستطيع من خلاله السيطرة على الصف، وتقليل احتمالات لعب حزب البنات دور المعارضة المعطِّلة. 

​أُعلنت النتائج أمام الطلاب، وقدمت شرحاَ مبسَطاَ عن مهام العريف الذي سوف يمثل الصف أمام المدرسين والإدارة، ويعمل على حل مشاكل الصف وتقديم كل مفيد له. ونصحت الطلاب بتقديم شكوى ضد العريف ونائبته في حال تجاوزهما مهامهما الدستورية والقانونية. انتهت العملية الانتخابية بنسبة نجاح ممتازة، لا ينقصها إلا ممارستها لوقت طويل، حتى يدرك الطلاب من الأجدر في نيل أصواتهم وتمثيلهم بالشكل الأمثل. 

توجَهتُ في الفرصة إلى الإدارة، لأقدم لهم وللمدرسين لمحة عن التجربة الديموقراطية التي يعيشها صفنا. لم يستطع المدرسون كتم ضحكاتهم، وأنا أسترسل مزهواً في شرح مجريات اليوم الانتخابي، بينما بدت علامات الامتعاض على وجه المدير وبعض المدرسين الذين يميل هواهم باتجاه نظام الأسد، فالأفكار التي تم تقديمها للطلاب خطيرة جداً، وستبدأ دق المسامير في نعش القائد الأوحد. لم يمنعهم من طردي من المدرسة إلا أننا في المناطق المحررة، ومن المحتمل أن يتسبب عملهم هذا بمواجهة مباشرة مع ثوَار المنطقة.

قطعَ كل ذلك أصوات عالية قادمة من الباحة. كان الطلاب يصرخون بكل ما لهم من قوة في حبالهم الصوتية، مثلما كانوا يفعلون أيام احتفالات طلائع البعث. اقترب الحشد من باب الإدارة وهو يهتف «مشعل، مشعل، مشعل». كان مشعل محمولاً على الأكتاف، والجماهير العريضة من حوله تحتفل بالإنجازات التي حققها منذ توليه منصب العريف، قبل عشر دقائق. لم تكن صفحة هؤلاء الأطفال بيضاء كما ظننتها، بل سبقني إليها عشرات الأعوام من الحكم الشمولي، الذي نقل لهم حب وتقديس القائد عن طريق مورثات آبائهم.

لم يتمالك أحد نفسه من الضحك، كذلك أنا ضحكت كما لم أضحك من قبل. وتخيّلت المدير، الذي كان ينظر لي بمكر، وهو يقول بصوت عادل إمام «بتحط نفسك بمواقف بايخاااا».