عبد الحميد السرّاج...
موتٌ هادئٌ لمؤسِّس جمهورية القمع السوريّة

رحل «السلطان الأحمر» عن عمرٍ يناهز الـ 88 عاماً، رحل وهو يسمع ويرى يومياً كيف يقضي شباب سورية نحبهم في زنزاناتٍ وضع هو أساسها وأسسها.. يموتون تعذيباً من أجل التخلص مما بدأه السلطان وتلاميذه من بعده.

وطوال سنواتٍ مديدةٍ سابقةٍ، آثر الرجل الصمت، ولم يكتب مذكراته باعتباره شاهداً على المرحلة الأكثر غنىً في تاريخ سورية. فماذا عساه أن يقول وهو يرى الصرح المخابراتي السوري الرهيب ما زال قائماً حتى اليوم، وهو الذي أسّس لبناته الأولى بيده في منتصف الخمسينيات، وهو من وضع أسس نزع الاعترافات وسجناء الرأي.. ماذا كان سيقول السراج مؤسس الشعبة الثانية؟ وما زالت الآلة القمعية تعمل على نفس طريقة العنف بتقطيع الأجساد، وتلتهم من السوريين ليل نهار؟ وماذا عساه أن يقول وبعض الذين طالهم التعذيب ما زالوا بين الأحياء يذكرون تفاصيل تلك الأيام؟
وقبل عهد المكتب الثاني الذي قاده السراج لم تعرف سورية شيئاً اسمه «سجناء سياسيين» ولا المباحث الذين يرتدون اللباس المدني للتخفي ويقومون باعتقال الناس.. هذه البداية وجدت لاحقاً من يكمل سيرتها في عهدي (حافظ الأسد وبشار الأسد) حتى تشكلت جمهوريةٌ كاملةٌ من الخوف، جمهوريةٌ لا حدود لسطوة رجال الأمن فيها.

في السيرة

بدأ عبد الحميد السراج، المولود في حماة 1925، حياته حارساً على مدخل بحسيتا (سوق مدينة حلب العمومي). ثم انتسب إلى الكلية العسكرية التي تخرج فيها عام 1947. وكان في بداياته مرافقاً لحسني الزعيم، ثم لأديب الشيشكلي. تمتع الرجل بالدهاء السياسي والمهارة في حياكة المؤامرات، حتى ترأس الشعبة الثانية وأصبح رجل الأمن الأول في النصف الأول من الخمسينيات، وتمكّن لاحقاً من جمع خيوط اللعبة السياسية في يده خلال أعوام 1955-1961. ووظَّف مكره ودهاءه لتأسيس دولة أمنية بوليسية، خنقت الحريات العامة في سورية ما بعد الاستقلال، وأجهضت التجربة البرلمانية الديمقراطية في مهدها. ثم نال ثقة جمال عبد الناصر بشكلٍ لا يقبل الجدل، فسيطر على الأمن الداخلي، كوزيرٍ للداخلية في الإقليم الشمالي لدولة الوحدة، ثم تولى منصب نائب الرئيس ناصر للإقليم نفسه، وتحكّم بالمخابرات وأجهزة الاقتصاد، وبالتنظيم السياسي الوحيد إبان عهد الوحدة (الاتحاد الاشتراكي)، ليصبح أقوى رجل في سوريا بأكملها. وأكثر من ذلك، وأبعد من حدود الدولة، يتذكر بعض الأردنيين واللبـــــــــــنانيــين والعراقيين بأن للرجل أيادي طولى تغلغلت في بلدانهــــم، وطــــــــاردت خصـــــومه هنـــــــــــــــاك بالتعاون مع الأجهزة الأمنية فيها..

وبالرغم من أنه كان يقف وراء غالبية الانقلابات التي حدثت في سورية بعد الاستقلال، إلا أنه وقع أخيراً ضحية لها، حين قاد عبد الكريم النحلاوي في 28 أيلول 1961 الانقلاب على عهد الوحدة. وكما هي العادة بعد كل انقلابٍ، تمّ اقتياد المسؤولين السابقين إلى السجون، فكان من نصيب السرّاج سجن المزّة الشهير. لكنه لم يدم طويلاً فيه فتم تهريبه بعد فترة وجيزة برعايةٍ تامّةٍ من «الريّس ـ عبد الناصر»الذي أصرّ، ابتهاجاً بتحرير ظله السوري، إلا أن يتناول معه وجبة الإفطار في منشية البكري بالقاهرة، التي وصل إليها السرّاج صباح اليوم التالي لهروبه. 

ثنائيّة الفساد والقمع

يشير غسان زكريا، عديل السراج ومؤلف أشهر كتابٍ عنه، إلى أن السراج كان يقوم ببثّ جواسيسه لمراقبة اجتماعات الضباط السوريين المشكوك في ولائهم للوحدة، ومراقبة الأنشطة السياسية والاجتماعية، واعتقال المشتبه بهم، والضرب بيد من حديد وبقسوة... وأنه أصدر تعليماته بعدم السماح لأي مواطنٍ بمغادرة الأراضي السورية إلا بعد الحصول على «تأشيرة خروج» أو إذن سفر، فحوّل البلاد سجناً كبيراً. وأتبع ذلك بسياسةٍ اقتصاديةٍ موجّهة، حــــــــــدّدت الاســــــــــتيراد ومنعت الكثير مـــــن المواد الكمالية، فتفشت ظاهرة التهريب من بيروت، التي كانت تحافظ على نظامها الاقتصادي الحر... وبدأت تتشكل عصابات تهريبٍ منظمة حماها بعض ضباط الاستخبارات على مرأى ومسمع السراج، الذي كان يقف في الناس داعياً إلى حماية الاقتصاد الوطني! بينما كان يسمح لنفسه بأن يرسل سيارته البويك الخمرية في ساعات الفجر الأولى إلى بيروت لتعود مليئة بكل نفيس وثمين...

ومن جهةٍ أخرى، يذكر الباحث أن وجيه أنطكلي، أحد رجال السراج، حين اعتقد أن زعيم الحزب الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو، الذي لاقى أبشع أنواع التعذيب، قد فارق الحياة؛ أقدم على نشر رجل السجين بمنشارٍ حديديٍ كي يتسنى تذويب الجثة حسب الخطة... فصحا الحلو من غيبوبته من شدة الألم وصرخ متوسلاً، إلا أن أنطكلي انهال بالمنشار على رأس الرجل حتى تأكد من موته، وعاد لإكمال تقطيع جسده بالمنشار، ثم صبّ الأسيد على الجسد المقطّع، وألقى العناصر محلول الجثة في نهر بردى.