مايكل بيترو
مونتريال غازيت
ترجمة مأمون حلبي

يُمثّل إفراغ سوريا من سكانها أكبر هجرة قسرية تشهدها الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. ملايين البشر المحطمون على المستوى الشخصي سيعيدون تشكيل الشرق الأوسط -ومن بعده العالم- لأجيال قادمة.

تمتد مدينة مرسين التركية على الساحل الشمالي للبحر المتوسط، وتكتظ أحياؤها الأكثر فقراً باللاجئين. الكثيرون منهم يعملون في ورشات خياطة تحت الأرض، وبعض من هؤلاء العمال أطفال. في إحدى هذه الورشات قابلنا عبدو، 15 عاماً، من مدينة حلب. يقول إنه يكسب 100 دولار كأجر شهري، وإنه يريد الذهاب إلى المدرسة، لكن عليه أن يعيل أسرته.

أختان تعملان في ورشة بمرسين

في لبنان يبيع الأطفال اللاجئون المناديل الورقية وملمعات الأحذية، أو يتسولون على قارعة الطرقات، كما في تركيا والأردن. لكن بين اللاجئين السوريين في المخيمات غير الرسمية في وادي البقاع يوجد أيضاً شكل إقطاعي تقريباً من العمل يربط العامل برب العمل بشكل إجباري. تمتد المشكلة إلى ما قبل الحرب في سورية، عندما كان السوريون يأتون إلى البقاع ليعملوا في الزراعة بشكل موسمي. وكان رجل يعرف بالشاويش يبقى بعد انتهاء الموسم وينظّم العمل اللاحق لأفراد من عائلته أو قريته. عندما دفعت الحرب آلاف السوريين إلى لبنان، اعتمد الكثيرون منهم على شاويشهم لترتيب نقلهم إلى لبنان والدفع للمهربين والحصول على خيمة أو كوخ في مخيم على أرض خاصة مُستأجرة. أثناء هذه العملية تراكمت عليهم ديون ضخمة للشاويش، يجب أن تُسدّد عن طريق العمل. مُلّاك الأراضي اللبنانيون في البقاع ما زالوا في حاجة إلى عمال، والشاويش يستأجر اللاجئين الذين له في ذمتهم مال.

عواش، 37 عاماً، تعيش في كوخ مكتظ مع عائلتها المكونة من زوجها وأطفالها وأبيها وزوجة أبيها التي لها خمسة أطفال من زوج متوفى. عواش والأطفال هم من يكسبون قوت العائلة. معظم الأطفال يعملون. وعواش، التي ما تزال ترضع أصغر أطفالها، مرغمة على ترك رضيعها 7 ساعات في اليوم للعمل في الزراعة. منال، 10 أعوام، تعمل في الحقول، وهي لا تعرف المدرسة إطلاقاً. تقول عواش: «أرغم منال على العمل لأن علينا أن ندفع للشاويش وعلينا تأمين متطلبات العيش». مواس عراجي، رئيس بلدية بر الياس المجاورة، سمع أن بعض اللاجئين السوريين في تلك المنطقة يتم استغلالهم، لكنه يقول إن معظمهم يلتزمون الصمت حيال ذلك: «السوريون ليسوا عبيداً للشاويش، لكن المشكلة أنه لا أحد يبلّغ عن هذا الأمر. لو تم الإبلاغ لتصرفنا».

الزواج المبكر، شأنه شأن عمالة الأطفال، يحرم كثيراً من اللاجئين السوريين من التعليم. وفي حين كان هذا الأمر شائعاً في بعض المجتمعات الريفية قبل الحرب، فاقم الفقر والانهيار الاجتماعي هذا النزوع. في بدايات هذا الشتاء تزوجت منى، 14 عاماً، ابن عمها عبد الله، 18 عاماً، في مخيم في وادي البقاع، حيث يعيشون. ويُظهر فيديو مصوّر بالموبايل لحفل الزفاف منى وهي في ثوب أبيض وحولها جمع من الرجال والنساء، والثلج يندف كقصاصات الورق. هناك أيضاً فرقة موسيقية وقدور ممتلئة بالدجاج للضيوف. تقول منى: «لو كان الأمر بيدي لفضلت الانتظار. لكن والديَّ قررا وأنا قبلت لأنه كان القرار الصائب. الزواج يقدم لي الحماية، هناك كثير من الناس لا أخلاق لهم. لو أتيح لي البقاء في المدرسة لأحببت أن أكون طبيبة أسنان». أما تعليل عبد الله لزواجه من منى فهو أبسط: «لقد أحببتها». عروس أخرى صغيرة في المخيم تكرر تفسير منى بخصوص الحاجة إلى الحماية. إنهم يتكلمون عن خوف عائلاتهم من الاغتصاب أو من ممارسة الجنس قبل الزواج في بيئة مكتظة وتفتقر إلى الخصوصية، وحيث البنى العائلية الاعتيادية قد تنقلب رأساً على عقب لغياب أو موت الآباء والإخوة.

تركيا أحد أقوى المناوئين لحكم الأسد. وكان للحرب السورية تأثير كبير على سياستها وأمنها وعلاقاتها الخارجية. مع ذلك، بين البلدان الثلاثة في الشرق الأوسط التي تستضيف معظم اللاجئين السوريين تبقى تركيا الأقل اهتزازاً من هذا التدفق. فهي أكبر وأغنى وذات كتلة سكانية أعلى من الأردن أو لبنان، والعبء عليها أقل بالمقارنة. في مدينة الريحانية قرب الحدود السورية تقوم مدرسة السلام، التي أسستها جمعية خيرية كندية، بتدريس منهاج سوري معدل. وهي تضم مجاناً قرابة 1500 طالب لاجئ، وقد أرسلت اثنين من الخريجين للدراسة في جامعة كونكورديا في مدينة مونتريال الكندية. يقول رمزي، الذي يدرس أبناؤه في هذه المدرسة: «عمل أبنائي لبعض الوقت في تجميع البلاستيك، لكنهم الآن في المدرسة لأن التعليم أهم من النقود». أقل من عشرة في المئة من اللاجئين السوريين في تركيا يعيشون في مخيمات اللاجئين، لكن شروط الحياة في هذه المخيمات أفضل بكثير مما هي في مخيمات لبنان غير الرسمية، وفي الحقيقة أفضل مما في كثير من مخيمات اللاجئين في أماكن أخرى من العالم.

بخلاف تركيا، كان لبنان هشاً حتى قبل أن ترمي الحرب السورية أكثر من مليون شخص إليه. في أفضل أوقاته، يُشكّل لبنان خليطاً سريع العطب من الشعوب والأديان: مسيحيون؛ مسلمون سنّة؛ مسلمون شيعة؛ دروز، وغيرهم. والسلطة السياسية في البلد مقسمة وفق هذا التوزّع. لقد تمّ تحدي هذا التوازن بوصول اللاجئين السوريين، وأغلبهم مسلمون سنّة. يقول دياب مدوّر، وهو عامل زراعي من قرية مسيحية في وادي البقاع: «إن بقي اللاجئون سيصبح السنّة أكثرية. المسيحيون -وأيضاً الدروز والشيعة- سيهاجرون، لأن للسنة عقلية متطرفة، وفي خاتمة المطاف سيستلمون السلطة. بالطبع أساند الأسد. أراد السوريون الحرية وها هم الآن قد دمروا بلدهم. كنا في السابق نغار منهم».

يقاتل حزب الله في سوريا إلى جانب الأسد. أنصار الحزب أيضاً غير سعداء بوجود لاجئين سنّة في لبنان. يسأل ماهر الدنا، وهو صحفي يعمل لصالح منابر إعلامية مرتبطة بحزب الله: «لماذا معظم اللاجئين نساء وأطفال؟ لأن أقرباءهم يقاتلون داخل سورية، وهو ما يفسر عدم فرارهم داخلياً. توجد أماكن آمنة داخل سوريا، لكن معظمهم مرتبطون بتنظيمات إرهابية. قيل لماهر إن السوريين ربما يغادرون بلدهم لأنهم يخشون ما قد يصيبهم إن اعتقلتهم القوات السورية، فيرد قائلاً: «قطعاً يوجد بعض التعذيب. هذه حرب، ولا يمكن ضبط كل شيء. معظم المعتقلين إرهابيون، ولن نضعهم في فنادق خمس نجوم. الجيش السوري وحزب الله يسدون معروفاً كبيراً للإنسانية لأنهم يقاتلون الإرهاب».

إيناس، وهي لاجئة سورية تعيش مع ستة أطفال في إحدى ضواحي بيروت، قلقة من الانقسام الطائفي في موطنها الجديد. زوج إيناس اختفى في سورية، وهي تحت ضغط مالي هائل. تتدبر أمرها بالاعتماد على المساعدات النقدية التي تقدمها مفوضية اللاجئين وبرنامج الغذاء العالمي. سابقاً كانت إيناس وأولادها يعيشون بين سوريين آخرين في شقق غير قانونية أجرها لهم مالك لبناني. أغارت الشرطة على الشقق وتم إخلاء إيناس التي خسرت كثيراً مما كانت تملك وأمضت أسبوعاً بلا مأوى قبل أن تجد شقة من غرفتين بمساعدة مفوضية اللاجئين. تقول إيناس: «بسبب الغارة نشعر أنه غير مرحب بنا، خصوصاً أن معظم جيراننا مسيحيون ونحن مسلمون. نبقى في البيت معظم الوقت، ونخرج فقط في الليل لشراء حاجياتنا».

يُظهر بحث قام به معهد تابع للجامعة الأميركية في بيروت أن 61% من اللاجئين السوريين في لبنان الذين هم في سن الدراسة ليسوا في المدرسة، وأن التسرب الدراسي بالنسبة للاجئين في المدارس العامة قد يصل إلى سبعين في المائة نتيجة عوامل مثل اللغة (كثير من المدارس العامة في لبنان تعتمد اللغة الفرنسية أو الإنكليزية)، التكاليف المالية، الزعرنة في حق السوريين، صعوبات التكيف.

الأردن، المعرّض بدرجة كبيرة لارتدادات الحرب السورية وأزمة اللاجئين، قد لحقه الضرر. فهو بلد فقير، واقتصاده التجاري دُمِّر. يشتكي الأردنيون من منافسة السوريين في مجال العمل. مع ذلك، الأردن مستقر نسبياً. فأجهزة استخباراته تتمتع بالكفاءة وللبلد علاقات وثيقة مع دول غربية عدة. يرى أيمن هلسا، أستاذ حقوق الإنسان في جامعة الإسراء في عمّان، أن الافتقار إلى الحماية من الاستغلال عامل يجعل اللاجئين يُحجمون عن المساهمة في النمو الاقتصادي للأردن. يقول هلسا: «يصبح العمل أكثر فأكثر وكأنه عمل قسري. اللاجئون خائفون من المطالبة بحقوقهم. إن كنتَ سورياً تعمل لي ولم أدفع لك في نهاية الشهر، ماذا تستطيع أن تفعل؟ وضعيتك القانونية غير واضحة». النتيجة هي أن كثيراً من السوريين الذين كان لديهم في سورية عمل يتطلب مهارات عالية، يعملون في الأردن مقابل أجور منخفضة أو في الخفاء.

يوسف

في مركز الحياة الثقافي في إحدى ضواحي عمّان يتدرب الأطفال اللاجئون –والأردنيون- على المسرح والرقص ونشاطات أخرى. مؤخراً أدى الأطفال مسرحية. إنها قصة فتى أُجبر على ترك بلده، وفي البلد الذي فرّ إليه يقاوم من يزدريه ويضربه. تمثّل الحبكة تجربة لاجئين سوريين في الأردن. الفتى السوري يوسف، 11 ​عاماً، الذي لعب دور البطولة، يقول إنه يرى نفسه في هذه القصة. في المسرحية، يأتي الفتى لمساعدة أولئك الذين عذبوه ويتصالح معهم. هذه القصة ليست مختلفة عن تجربة يوسف في الأردن. في المسرحية، الأصدقاء الجدد للفتى يساعدونه على العودة إلى وطنه. يوسف يريد أن يحصل الأمر ذاته معه. يقول عن سورية: «إنها المكان الذي ترعرعت فيه. إنها وطني».