مايكل بيترو
مونتريال غازيت
ترجمة مأمون حلبي

يُمثّل إفراغ سوريا من سكانها أكبر هجرة قسرية تشهدها الإنسانية منذ الحرب العالمية الثانية. ملايين البشر المحطمون على المستوى الشخصي سيعيدون تشكيل الشرق الأوسط -ومن بعده العالم- لأجيال قادمة.

«لكل فردٍ قصة فراره»؛ يقول أحمد عضيمة، وهو طبيب من حمص يعيش حالياً في منفاه في تركيا. بدأت قصة أحمد عندما كان يغطي على مناوبات صديق له في مشفى حكومي. كان هذا الزميل يجتاز مسافة 100 متر زحفاً عبر أنبوب للصرف الصحي كي يصل إلى مناطق المتمردين ويعالج المقاتلين الجرحى هناك. صديق آخر له صلات داخل أجهزة الأمن السورية حذّر عضيمة أن التحايل الذي كان يمارسه قد اكتشف، وأنه الآن مطلوب للقوات الموالية للأسد. هرب عضيمة فوراً إلى حي الوعر الخاضع لسيطرة قوات المعارضة، وفي النهاية اتجه إلى مدينة عنتاب التركية. ما زال والده وشقيقاه في سوريا. عندما جدّد النظام هجومه على الحي الذي يعيش فيه أهله وجد عضيمة التوتر العصبي يدفعه إلى تهديد ابنتيه الصغيرتين بالضرب، وعاد إلى التدخين كي يهدّئ أعصابه.

أحمد العضيمي

هرب جمعة القاسم بعد أن مات والده في أحد سجون النظام السوري. في لقاء معه في أحد مطاعم عنتاب، حيث يعيش حالياً، قال إن والده لم يكن ناشطاً. «لقد كان مجرد رجل عجوز». اعتقل والد جمعة بعد أن زار ابنه الأكبر في السجن. دفعت العائلة رشاوى لتحافظ على حياة الوالد، لكنها علمت أنه عُذّب وعانى من إسهال شديد ومات في زنزانة مكتظّة. جرّ الحراس جثته إلى الممر وتركوها هناك ليُرعِبوا المساجين الآخرين. قبل اعتقاله، لم يكن شقيق جمعة قد شارك حتى في المظاهرات ضد حكم الأسد. بعد إطلاق سراحه انضم إلى إحدى جماعات المتمردين. قد يكون الانتقام أبسط من أن يستطيع تفسير هذا التحول. كان محطماً من الداخل. خرج ممزق الشخصية، ولم يتفوه بكلمة طيلة ستة شهور. فقط كان يحدق إلى الأرض ويدخن السجائر. ما زال شقيق جمعة حياً، وربما بهذا المعنى فقط هو محظوظ. يقول جمعة: «الحياة في سوريا تساوي نصف دولار. إذ يمكن لطلقة أن تنهي حياة شخص له زوجة وأطفال ومكانة ضمن الجماعة التي يعيش وسطها».

هرب محمد لأن والديه خافا مما يمكن أن يصيبه إن بقوا في سوريا. كانوا يعيشون في ريف حلب تحت حكم تنظيم الدولة. يقول: «إن كان بنطال المرء طويلاً كانوا يقصّونه، وكانوا يرغموننا على الذهاب إلى المسجد ويحضوننا على الجهاد». محمد، البالغ من العمر 15 عاماً والذي يعيش في مخيم في وادي البقاع اللبناني، يقول إن شرطة التنظيم كانت تقل بسياراتها الأطفال الذين تراهم في الشوارع. «أخذوا أحد أصدقائي وجعلوه يحضر دروسهم. علمنا في ما بعد أنه فجر نفسه. كان عمره 14 عاماً».

حسام، الذي يعيش في حي فقير في العاصمة الأردنية عمّان، غادر داريا بعد أن اعتقل عقب مظاهرة معادية للنظام، يقول إنه لم يشارك فيها حتى. «كسروا أنفي وأضلاعي. لم أكن أستطيع رؤية ما كانوا يضربونني به لأني كنت مطمشاً. كانوا يشتمونني أثناء التعذيب ويقولون: «بدك حرية؟ خود هالحرية!». بعد اعتقال دام 3 شهور أطلق سراحه وخرج من السجن حافياً. بقي في سوريا قرابة عامين. في غضون ذلك كانت داريا مسرحياً لقتال عنيف بين قوات النظام والجيش الحر. قصفت طائرات النظام حيهم فلحق الأذى بسمع زوجته. هرب حسام وأفراد عائلته إلى الأردن. ابنهم، سبع سنوات، ما زال يبول في فراشه نتيجة الصدمة التي عانى منها في داريا.

لا تختلف قصص اللاجئين السوريين في تركيا والأردن ولبنان عن قصص 40 ألف سوري أتوا إلى كندا منذ انتخاب جستين ترودو عام 2015، أو عن قصص قرابة مليون لاجئ في أوروبا. تتباهى حكومة ترودو بحصتها من اللاجئين كمثال على الروح العالمية المعاد اكتشافها التي تتمتع بها كندا. لكن، بالنسبة إلى تركيا ولبنان والأردن، 40 ألفاً هو رقم لا يُذكر. الأردن، وهو بلد عدد سكانه 6 ملايين ونصف مليون، يستضيف على الأقل مليون سوري. لبنان، وعدد سكانه أقل من الأردن، يستضيف قرابة مليون ونصف مليون. وتركيا لديها قرابة 3 مليون. كلّس مدينة تركية صغيرة على الحدود مع سوريا، يبلغ عدد سكانها حوالي 94 ألفاً، لكنها تستضيف 135 ألف لاجئ. حسن قره، محافظ كلّس، فخور بهذا. يقول: «نحن، أهالي كلّس، نسأل الجميع ما هو ميراث العالم الثقافي؟ قد يقول المرء عجائب الدنيا السبع. لكن، بالنسبة إلينا، الميراث الثقافي الأكثر أهمية هو ميراث روحي؛ إنه الرحمة تجاه البشر». لا ينتقد قره كندا بشكل صريح لقبولها عدداً صغيراً من السوريين بالمقارنة مع تركيا، لكنه يطلق نكتة توحي أنه بإمكان كندا أن تستضيف كل السوريين الذين قبلت لجوءهم في فندق واحد. يقول: «لقد شاهدت كندا. إنها فارغة».

حسن قره

على امتداد الشرق الأوسط تجاهد بلديات المدن التي تستضيف اللاجئين للتعامل مع الضغوط التي فرضها هؤلاء على الخدمات. الأردن، الذي يشكو من شح المياه في الأصل، عليه الآن أن يقدّم المياه لمليون سوري. تحديات كهذه تشغل بال السياسيين المحليين واللاجئين. الكثير منها يمكن حله أو تخفيفه بالمال، لكن تحديات أخرى تبدو أكثر عمقاً ومن الصعب معالجتها. فهناك أطفال لاجئون سيعيشون غربتهم دون أن يمسهم الأذى. وهناك آخرون، بالرغم من الفقر المدقع لعائلاتهم، يبحثون عن تعليم يمكن أن ينتج تأسيساً شخصياً قد يُبنى عليه مستقبل، في سوريا ذات يوم، أو في بلدان اللجوء. لكن مئات آلاف آخرين يعيشون طفولة مضيعة بطرق قد لا يستردون عافيتهم منها. فأي فرصة لطفل عمره 12 عاماً -كان في السادسة عندما بدأت الحرب، ولم يكن قد عرف المدرسة- للحاق بنظرائه، أو حتى لتعلم القراءة؟ وما معنى أن يبلغ المرء السن القانونية في مخيم للاجئين دون أن تكون لديه ذكريات عن زمن كان يعيش فيه في مكان آخر دون سياج، ودون أن يرى طريقاً إلى مستقبل في مكان آخر؟ وماذا عن يافعة تمضي لياليها نائمة في مأوى جدرانه من الشادر، وتُمضي نهاراتها وهي تقتلع البطاطا من الطين لتجلب النقود لعائلتها عوضاً عن الذهاب إلى المدرسة؟ أي مستقبل لهكذا فتاة سوى الزواج المبكر والأطفال الذين من المرجّح ان يعانوا بالطريقة ذاتها؟ قصص كهذه تبدو مأساوية الآن، لكن لسنا سوى في نقطة البداية. أولئك الفتيان والفتيات، جيل بكامله من السوريين، سيكونون ذات يوم رجالاً ونساءً سيشكلون سوريا والشرق الأوسط، وسيكون لهم تأثير على المنطقة أكبر بكثير مما عليه الأمر الآن.

حتى الآن يوجد حس من التضامن مع السوريين الذين أتوا للعيش في تركيا ولبنان والأردن. ومع ذلك، هذه النوايا الطيبة ليست بلا نهاية، خصوصاً عندما يصبح جلياً أن كثيراً من «الضيوف» السوريين، وربما معظمهم، لن يغادروا عما قريب. ثم إن التعقيدات الحقيقية للإفراغ الواسع لسوريا ستبدأ بالتبلور. بالرغم من ست سنوات من الحرب، فإننا لا نعرف كيف سيكون شكل هذه التعقيدات. من الناحية الجمعيّة، يُعيد اللاجئون السوريون تشكيل المنطقة بطريقة ستكون لها أصداء في شتى أنحاء العالم. لكن في عمقها، تتألف هذه التغريبة من ملايين الأشخاص المحطمين على المستوى الفردي.

فيصل حمدان، 13 عاماً، لا يعرف إن كانت هذه السنة ستكون الأخيرة التي يذهب فيها إلى المدرسة. يقول والده محمد: «إنها ليست مسألة إن كنتُ أريد أن يترك أطفالي المدرسة. الأمر ضروري. الخبز أهم من التعليم في هذه المرحلة». لفيصل أختان. رقية، 12 عاماً، وحليمة، 10 أعوام.

محمد حمدان وابنتاه

تتقاسم العائلة، التي مجموعها 5 أفراد، بناءً بسيطاً خلف قنّ للدجاج في الفناء الخلفي لمنزل عائلة تركية في مدينة الريحانية قرب الحدود مع سورية. يعيشون في غرفة مقسمة بالستائر. توجد غرفة ثانية رطبة جداً بحيث لا تصلح سوى لأن تكون مستودع تخزين. تدفع العائلة ما يساوي 180 دولاراً كإيجار لهذا المأوى كل شهر. عمالة الأطفال متفشية بين اللاجئين السوريين. الآباء الذين يفتقرون إلى إذن عمل يخافون من الترحيل ويعتقدون أن احتمال أن تحاسب السلطات الأطفال بسبب العمل غير المرخص أقل. في بعض الأحيان يكون العمل جزئياً. قرب بيت فيصل في الريحانية، وفي غرفة مكتظة بساكنيها، تعيش صلحيّة وأطفالها الستة الذين تتدرج أعمارهم من سنتين إلى 14 سنة. يعاني زوجها من جروح في الرقبة ولا يستطيع العمل. تعمل صلحيّة في تنظيف البيوت بمساعدة أكبر أبنائها. أما أولادها الآخرون فيحاولون الحصول على شيء من أكوام القمامة أثناء بحثهم عن أشياء قابلة للتدوير. عندما تكون حصيلتهم طيبة يمكنهم العثور على بلاستيك بقيمة 5 دولارات.