سقوط آل الأسد

حسن صبرا صحافيٌّ لبنانيٌّ اشتهر عام 1986 بالكشف عن وقائع فضيحة إيران غيت (صفقة الأسلحة الأمريكية إلى إيران) وتعرّض بعدها إلى محاولة اغتيال. وطوال عشرات السنين من رئاسة تحرير مجلة «الشراع» تراكمت عنده وقائع كثيرةٌ من كواليس السياسة السورية في لبنان. ومع اندلاع الثورة السوريّة صار بإمكان الصحافيّ كشف بعض ما يعرفه في مقالاتٍ، ثم جمعها في هذا الكتاب، الذي صدر عام 2013 عن الدار العربية للعلوم ناشرون، ببيروت.

والعنصر الأهم الذي يبرزه صبرا هو وجود ذراعين متصارعين للنفوذ السوريّ في لبنان؛ أولهما هو الثلاثي عبد الحليم خدّام ـ غازي كنعان ـ حكمت الشهابي، والذي احتفظ بعلاقاتٍ وثيقةٍ مع رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري، مما جعل هذا الحلف محطّ اتهام خصومه بتقوية الوجود السنّي وتوطيد زعامةٍ له في المنطقة. أما التكتل الآخر فيقوده محمد ناصيف، ضابط المخابرات الشهير، ويندرج فيه كلٌّ من بشار وماهر الأسد، ويحتفظ بعلاقاتٍ وثيقةٍ جداً مع حزب الله وإيران، دون استبعاد الخلفية المذهبيّة لهذا التحالف.
وإذا كــان الأســــد الأب، وقد عركتـــــــه السنون، يعرف أن هناك حدوداً لكلّ شيء، حتى لنفوذه الواسع في لبنان؛ فقد راعى توازنات الكتل اللبنانية وداعميها الدوليين والإقليميين على العموم. ولم يكن ممكناً للسياسة الطائفية الرعناء والمتعنتة، التي أدت إلى اغتيال الحريري، أن تسود إلا في عهد ابنه الذي اتفق الكثيرون على وصفه بالاختلال والتقلّب المفرط في الرأي والكذب.
ومنذ أن بدأ الأسد الأب بإعداد ابنه الثاني للوراثة، أخذ الأخير يجهّز فريقه في سوريا ولبنان، فكان هؤلاء عموماً من قليلي الخبرة، ضعيفي التــــــجربة، والمستــــــعدّين للموافقة على كلّ ما يقوله مهما كان سخيفاً أو غريباً، بالإضافة إلى افتقارهم إلى القيمة الذاتيّة أو الوزن التمثيلي في مجتمعاتهم أو طوائفهم. فعلى سبيل المثال، يروي ضياء دغمش، وهو أحد أوائل الناشطين، كيف اعتقله فرع فلسطين نتيجة تقريرٍ كتبه غالب قنديل، أحد الأبواق اللبنانيين، عندما تواجه الاثنان في برنامج «للنشر»!
ويرى المؤلف أن تحالفات بشار الطائفية كانت سياســـــــــية وعصبويّة بالدرجة الأولى، من دون أن يحمل الأسد الابن أي تديّنٍ خاص. إذ يروي أحد أصدقائه المقرّبين أن بشار لم يكن يحب مناطق العلويين، بل كان يتعالى على زيارة القرداحة، ويأنف من اللقاء بمشايخ من الطائفة كان والده وشقيقه الراحل يحرصان على لقائهم. وذلك بخلاف ابني خاله محمد مخلوف؛ رامي وحافظ، الأقرب إلى الالتزام والمحافظة. أما محمد ناصيف فيبدو أن تولّيه للملف الشيعي في لبنان، وللعلاقات مع حزب الله وإيران، كان نوعاً من الهوى والانحياز الشخصيين، أكثر منه مهمةً سياسيّةً/ أمنيّةً.
ويلقي الكتــــاب الضــــوء على صفحـــــــاتٍ أخرى من تاريــــــخ حكم آل الأسد، تفيد في فهم ما يجري الآن. فبعد الصدام بين البعثيين والناصريين، الذين كانوا شركــــــاء في «ثـــــــــورة» آذار 1963،
إثر محاولة جاســم علوان الانقلابية الفاشلة؛ عقد المكتب العسكري لحزب البعث اجتماعاً لبحث الأوضاع المتفاقمة في الشوارع السورية. وبينما مال رأي محمد عمران وصلاح جديد إلى الحوار مع جمال عبد الناصر والتفاوض على عملٍ وحدويٍّ يتجاوز سلبيات التجربة الماضية؛ فإن رأي حافظ الأسد كان سحق المظاهرات بالقوة، وإعدام بعض قادتها، وتوزيع صور القتلى في البلاد لإرهاب المحتجّين فيتوقفوا عن التظاهر!
أما بعد اختيـــــار حافظ الأسد لحكمت الشهابي لمنصب رئيــــس هيئة أركان الجيش، فقد استاء كثيرٌ من كبار الضباط المقرّبين، كان اللواء شفيق فيّاض من أشدّهم، إلى درجة أنه اتصل بالقصر الجمهوري وهو في حالة سكرٍ شديد، ليعترض على تعيين هذا «السنّي الحقير». وقال لمحمد دعبول (أبو سليم)، مدير مكتب الأسد: قل للرئيس من أين جاء بهذا الحمار ليحكمنا؟! نحن رجاله الحقيقيون ولن نخضع لأيٍّ من قرارات الشهابي!! فما كان من رئيس الأركان ـ وقد بلغه ما قيل ـ إلا أن امتنع عن زيارة أيّة قطعةٍ عسكريةٍ طيلة بقائه في منصبه. ثم انسحب من شؤون الجيش بشكلٍ أوضح والتزم الصمت أمام تدخلات باسل الأسد في شؤون هذه المؤسسة، بخلاف
موقفه من بشار، الذي ما إن خلف أخاه حتى صار الشهابي يردّد أمام بعض مقرّبيه المخلصين والكتومين: هذا الولد غبي، وسيطيح بكل شيءٍ بناه والده.