رمضانات مختلفة لسوريين عديدين

كيليس - خاص عين المدينة

الشارع الممتد من ساحة الجمهورية وحتى الأمنيّات في ولاية كيليس التركية، يتحول منذ الثامنة من مساء كل يوم إلى مهرجان احتفالي بشهر رمضان، تمنع السيارات من المرور فيه لتغزوه الكتل البشرية المبتهجة تحت زينة كتبت عليها آيات قرآنية. بسطات من ألعاب الأطفال، وطاولات ممتدة يجلس إليها الناس ليشربوا الشاي والقهوة ويأكلوا المثلجات، ومدينة ألعاب مطاطية تحتل ساحة الجمهورية.

 جلست في إحدى الزوايا المطلة على الشارع. كان السوريون العنصر الأهم والأكثر، هم بائعو الألعاب وهم عمال المقاهي، هم الرواد وهم المشترون، وكأن الكثير من الفرح كان ينقصهم. هي غصة المظاهر الرمضانية القديمة التي كانت تتجلى في صور مشابهة، وتختلف في أحايين عنها في بلاد النزوح. كركوز وعواظ اللذين رأيناهما في طفولتنا على شاشات التلفاز كحالة من المشخصاتية في مقاهي دمشق وحلب، يمشون أمام الجموع، والسلطان يمر بين الأطفال وخلفه حاشيته بلباس عثماني تقليدي. بائعو السوس والتمر هندي والمعروك يحتلون الزوايا بأعداد كبيرة. كل شيء يوحي بعودة الحياة. وكل ما ينقصنا لاستكمال مظاهر رمضان في الذاكرة هو صوت المدفع، «الطوب» كما كان يسمى في مدينة حلب، معلناً بداية الشهر الكريم، ليستمر حتى نهايته بإطلاق طلقة عند الإفطار والسحور كنوع من التقاليد.

أبو حسين، الذي يعيش في إحدى قرى جبل الزاوية كنازح بعد أن خرج من مدينة حلب مع المهجرين في نهاية العام الماضي، قال إن احتفاليات رمضان غابت تماماً: «لا زينة في الشوارع ولا أهلاً رمضان مكتوبة على قصاصات خضراء في المساجد». صلاة التراويح اختصرت إلى ثماني ركعات فقط، والنساء منعن من زيارة المساجد وضيّق الخناق عليهن. المسحّر غاب عن المشهد، وفوانيس رمضان لم تعد ترى في أيدي الأطفال. اقتصر ما يوحي برمضان على بعض بسطات السوس والتمر هندي وبأسعار باهظة تجاوزت 200 ليرة للكيس.

في معدان في الرقة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة كان الأمر أكثر صعوبة. يقول أبو صطيف، أحد سكان البلدة: حتى صلاة التراويح كما نعرفها باتت تهمة اقتيد إثرها بعض أئمة المساجد للعقوبة، فهي ثماني ركعات فقط في عرف التنظيم. أما النساء فقد منعن من المشي في الطرقات أثناء الصيام رغم حجابهن الكامل. كما فرض التنظيم قوانين صارمة تمنع المسحّر من عمله، منتقداً المظاهر التي كانت تسم رمضان في سورية.

أما في مدينة حلب التي كان لها طقوسها الخاصة في رمضان، إذ كانت الأسواق تتزين بكل الأطعمة والفواكه وينتشر في شوارعها بائعو العصير والتمر هندي والمعروك وكعك العيد الذي تملأ رائحته أرجاء المكان، ومحلات الفول والحمص، وجلسات السهر والمدائح النبوية في المساجد، وتقفل كل محلات الطعام تقريباً حتى قبيل الإفطار؛ فقد بات المشهد مغايراً كما تقول السيدة سعاد: «صرت ترى المحلات مفتوحة وكأن رمضان لم يمر من هنا. الأشخاص الذين يحملون سجائرهم في الطرقات باتوا أكثر من الصائمين. غاب المدفع الرمضاني، وحتى المسحّر الذي كان يحمل طبلته وعصا مخصوصة ينقر بها ثلاث نقرات بحركة متزنة وينادي بصوت جميل بأشعار وأدعية ليوقظك: «اصحى يا نايم، وحد الدايم» و«قوموا على سحوركن، إجا النبي يزوركن» والكثير من الأذكار، غاب عن شوارع المدينة. لم يبق إلا بعض البائعين الذين وجدوا في هذا الشهر مصدر رزق فوضعوا براميلهم الزرقاء التي تحوي بعض العصائر والسوس والتمر هندي».

النازحون في كيليس يحتلون الطرقات ويطربون رغم امتعاضهم من طريقة المسحّر التركي الذي بات حديث سوريّي الولاية بلباسه التقليدي وطبله المزعج الذي ينقل لهم صوتاً أشبه بالقذائف التي كانت تتساقط على رؤوسهم في البلاد التي فرّوا منها، وكأن الانكشارية عادوا ولكن هذه المرّة على شكل مسحّر.

------------------------------------------------------------------------------------------------------

* من أسرة «عين المدينة». وقد أعد هذا النص ضمن ورشة تدريبية على كتابة الفيتشر نظمتها الشبكة السورية للإعلام المطبوع.