من أرشيف المجلة عدسة أحمد

"عراقي الأخ؟!" هذا أكثر سؤال وُجِّه إليّ في الأشهر الأولى التي وصلتُ فيها إلى حلب كطالب جامعي صيف عام 2006، في محلات "السمانة" وسيارات الأجرة والمكاتب العقارية، بل وحتى في الجامعة نفسها!

آنذاك كانت حلب تستقبل -ككثير من المدن السورية- آلاف العراقيين الذين غادروا بلادهم إبّان الغزو الأمريكي لها، لكنّ ذلك لم يكن ليبرّر حذف خيار أنْ يكون صاحب لهجةٍ يتحدّث بها الناس من أرياف حلب وحمص وحماة الشرقية غرباً وحتى الحدود العراقية شرقاً؛ سوريّاً.

لاحقاً فهمت أنّ ديرالزور ليست موجودة كمركز عمراني في الخريطة الذهنيّة لكثير من أبناء محافظات سوريا الغربيّة! والذين يخلِطون بينها وبين البادية طباعاً ولهجةً وطبيعةَ عيشٍ حتى، ولن أكرر هنا القصة "الحقيقية" المعروفة عن الأسئلة الساذجة التي واجهها كثيرٌ من "الديريين" في المحافظات الأخرى: "هل تعيشون في خيام؟!".. "هل تتنقلون بالجمال؟!"..

لكنّ ذلك لم يكن حكراً على المحافظة الشرقية، ففي الجامعة التقيتُ بكثير من أبناء المحافظات السورية الذين يتقاسمون الشعور نفسه "بالتهميش"، حتى أنّ نقاشاً محموماً دار بيني وبين صديقين أحدهما من أبناء إدلب والآخر من أبناء "سُنّة الساحل"، كانت نقطة الجدال فيه أيّ من مناطقنا هي الأكثر تهميشاً! ولا زلتُ أذكر ضحكنا عندما علّق الإدلبي: "حتى المهرجان اللي بيعملوه عنّا اسمه مهرجان المدن المنسيّة!"

انتهاء القطيعة

انطلقَت الثورة السورية في آذار عام 2011 من درعا في الجنوب السوري، وجاءَت الأشهر التالية صادمة للنظام السوري أكثر من غيره، فهبّت المحافظات السورية تهتف فداءً لدرعا، مؤذِنَةً بانتهاء حالة القطيعة التي كرّسها النظام لعقود، وصار شعار التحيّة للمحافظات السورية الثائرة شائعاً في كل مظاهراتها، وبدأ خطّ فني ثوري أَنتج أغنيات وأهازيج ركّزت على تسمية المحافظات السورية الثائرة بالاسم ضمن كلماتها، والتي كانت تضمّ بلا شك "ديرالزور" التي كسرَت مبكّراً أواسط عام 2011 برفقة حماة حاجز المليون متظاهر! ولك أنْ تتخيّل ما عناه هذا الاعتراف بالمحافظة الشرقية من قبل أقرانها بالنسبة لأبنائها المتعطّشين لاعترافٍ مشابه بعد أعوام من التجاهل، وبدا أنّ هناك مجتمعاً جديداً تُنشِئُه الثورة يعرِّف الانتماء سوريّاً بالدرجة الأولى، ويعتزّ بالسوريين على اختلاف مناطقهم ولهجاتهم وأعراقهم وعاداتهم وطوائفهم أو أديانهم حتى.. (واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد – الله أكبر.. حرية – آزادي.. آزادي.. – رأس السنة الثوري – صلاة العيد في الثورة – الدحيّة الحورانيّة الثوريّة – العراضة الحمصيّة الثوريّة – الهوسة الديريّة الثوريّة – الرقصة الحلبيّة الثوريّة ... إلخ)

لكنّ "النهايات السعيدة.. هي قصص لم تنتهِ بعد!". ففي آب/رمضان عام 2011 حرك النظام جيشه لاجتياح محافظَتَي حماة ودير الزور الثائرَتَين، وخرجَت المظاهرات في كلّ مكان تتضامن معهما.. لكنْ بدرجات متفاوتة!
في حلب كنتُ جزءاً من "تنسيقيّة" ثوريّة تضمّ طلبةً جامعيّين من مختلف المحافظات السورية وعدداً من أبناء مدينة حلب، وبعد "مظاهرة طيارة" نُصرةً للمحافظتين تمكّنّا من إخراجها قريباً من الحديقة العامة في مدينة حلب، اجتمعَت مجموعتنا مساءاً لتقييمها، ودار نقاش حادّ احتجاجاً من أبناء ديرالزور في المجموعة على غياب اسمها عن هتافات المناصرة والتي خُصِّصَت جميعها لحماة، فيما تباينَت ردود فعل الآخرين بين من يرى أنّ المهم هو خروج المظاهرة، وبين مَنْ تعذّر ببساطة: "نسينا الدير"!

ربما يكون من المبرَّر أنْ يهتمّ السوريون لحماة أكثر من أي مكان آخر، فهي المدينة التي دفعَت الفاتورة الأكبر في "أحداث الثمانينيات"، لكنّ هذا لم يكن ليخفِّف من وطأة ما حدث عليّ، ومنذ ذاك الحين باتت حساسيّتِي لإهمال "الدير" أعلى مع كلّ منشور يستثني اسمها، أو هتاف يُغفِل تحيّتَها.

الفزعة

يَذكُر كثيرٌ منالسوريين انطلاق الثوار من حلب بقيادة "حجي مارع" -تقبّله الله- في مؤازرة قطعت 230 كم لنصرة مدينة القصير في ريف حمص على الحدود السورية اللبنانية، والتي كان نظام الأسد قد بدأ معركةً للسيطرة عليها بمشاركة "حزب الله" اللبناني أواسط عام 2013، ويَعتبر بعضهم ذلك الحدث تجلّياً لانتهاء عصر القطيعة بين المحافظات السورية بعد الثورة، لكنّ ما تلا هذا الحدث كان تجلّياً للتهميش نفسه الذي يوغِر صدور أبناء شرق سوريا.

فالمؤازرات التي وصلَت إلى القصير آنذاك لم تقتصر على ثوار حلب، بل إنّ مجموعات أخرى وصلَتْ إليها قاطعةً أكثر من 400 كم عبر البادية السورية من ديرالزور في أقصى شرق سوريا، باسم "جيش العسرة" المشكَّل خصّيصاً من المتطوّعة لهذه المعركة، والذي استطاع دخول البلدة والمشاركة في معركة الدفاع عنها قبل أنْ يتمكن النظام والحزب من احتلالها.

لكنّ أكثر السوريين الذين عرفتُهم لا يعلم أصلاً بوجود "جيش العسرة"، وكأنّ لثورة سوريا تاريخَان! تاريخٌ عامّ يوثّق الثورة على الشريط الغربي منها، وآخر لثورة الشرق يحفظه أبناؤه فقط؛ ويذكُرون أحداثه المرتبطة بالثورة ككل!

ثم جاءَت المواجهات بين تنظيم داعش وفصائل الثورة التي بدأَت في ريف حلب الشرقي أواخر العام نفسه، قبل أن تتحوّل إلى معركة مفتوحة تمكّن فيها ثوار حلب وإدلب من طرد التنظيم من مناطقهم شرقاً، كما فعَل ثوار الدير بطرد مجموعات التنظيم من جلّ المحافظة فزعةً للشمال، فيما تمكن التنظيم من بسط سيطرته على ريف حلب الشرقي ومحافظة الرقة، ونشأ خطّ رباط طويل على امتداد ريف حلب الشمالي يفصل المناطق المحررة في الغرب عن مناطق سيطرة التنظيم.

آنذاك كنتُ أحد أعضاء المكتب السياسي لجيش المجاهدين في حلب، وهو الفصيل الذي بدأ معركة تحرير الشمال من تنظيم داعش، لكنّ تحوُّل التنظيم عن الريف الحلبي ورمي ثقله بالكامل على محافظة ديرالزور في الشرق، دفَع ثوار الشمال الكبيرة لإيقاف هجماتهم ضدّ التنظيم والاكتفاء بالرباط.

وفي الوقت الذي كان فيه ثوار الدير يخوضون أشرس معارك المواجهة التي عرفها التنظيم في مركدة جنوبي الحسكة، كنتُ مع مجموعة من ثوار حلب نحاول حشد فصائل الشمال لضرب التنظيم شرقي حلب، تخفيفاً عن ديرالزور واستغلالاً لانشغال التنظيم بالمعارك هناك، لكنّ أيّاً من محاولاتنا لم تنجح، بل إنّ أحد قادة كبرى فصائل حلب في أحد تلك المحاولات اعتذر إليّ بقوله: "جماعة الدير عم يقاتلوهون عن النفط.. وهي مو معركتنا"!

سقطَت ديرالزور أخيراً.. وبدأ عصرُ معارك الثورة المحلّيّة التي خاضَتها كل من محافظات سوريا منفردة، وانتهى زمن أرتال الفزعة العسكرية، ولم يبقَ من "المجتمع الجديد" الذي أنشأَته الثورة إلا حملات المناصرة.

النزوح

بدأ الشمال السوري يستقبل منذ عام 2017 أفواج النازحين الضخمة من المناطق التي يحتلّها الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون، ضمن اتفاقيات تهجيرٍ نُقِل أهلها عبر ما بات يعرف بـ"الباص الأخضر" إلى الشمال، ومع كلّ حملة نزوح كان السوريون يؤكدون أنّ ما بنَته الثورة بينهم أكبر من اختزاله بالقيود التي تكبّل الفصائل العسكرية، واتّخذ شكل التكاتف بينهم حملات إعلامية وإغاثية نُصرةً للمناطق المنكوبة..

بلودان والزبداني.. حلب.. حمص.. ثم لاحقاً الغوطة وجنوب دمشق ودرعا... وأخيراً إدلب. مع كلّ حملة نزوح كانت الفرق الثورية الإغاثية تعمل لتخفيف وطأة النزوح عن أهلنا المهجرين، حتى جمَعَت في بعض الحملات الإغاثية مبالغ تصل إلى نصف مليون دولار.

لكنْ وفي أكثر حملات النزوح قسوةً التي حدثَت لأهالي ديرالزور مِنْ قاطني الضفّة اليمنى لنهر الفرات (الشاميّة)، إبّان الحملة العسكرية الروسية الإيرانية للسيطرة على المحافظة من تنظيم داعش، بدا أنّ لا أحد يُبالي حقاً!

ورغم تسليط الضوء إعلامياً على رحلة النزوح الشاقّة، التي اضطرّ فيها أهل الشرقية لمغادرة بلادهم تحت جحيم الطائرات وفوق ألغام داعش وعبر دوريّاته وحواجز قسد، على الأقدام أحياناً وعبر باديةٍ مات بعض الأهالي فيها عطشاً أحياناً أخرى، إلا أنّ أهالي الشرقية الذين شكّلوا آنذاك أكثر من 60% من مجموع المهجرين إلى الشمال لم يجدوا مخيماً واحداً يستقبلهم! بل إنّ الحملة الوحيدة لجمع تبرعات لإغاثتهم لم تصل إلى 10 آلاف دولار!

وكان على "أهل الشرقية" أن "يَقلَعوا شوكهم بأيديهم" في الشمال المحرر، الذي قصدوه ظنّاً بأنهم سيجدون فيه من يواسيهم بفقدهم، حتى اضطرّ كثيرٌ منهم إلى العودة إلى مناطق قسد أو حتى المناطق الخاضعة لسيطرة النظام والإيرانيين، واقتصرت جهود إعانة من تبقّى على مبادراتٍ أهليّة لأهالي الشرقيّة من المغتربين.

بالطبع لم يرَ أهالي المناطق الأخرى المهجّرة الورود في انتظارهم، لكنّهم وجدوا بعض المخيمات -على سوء أحوالها- وشيئاً من المساعدات التي تخفّف عبء التهجير، وهو ما لم يجده للأسف أبناء الشرق، الذي يؤمن أكثر أهله اليوم أنّ ما كان قبل الثورة لم ينقضِ ببدئها، وأنّ أهل الدير "ما لهم بچايات"

حي العرضي مدينة دير الزور - خاص