جرابلس بعد التحرير
أوّل الهموم: الأمن والقضاء العادل ومحو آثار «داعش»

خاص عين المدينة

قبل عامين تقريباً، ومن باب بيتها المطلّ على ساحة البريد وسط المدينة، شاهدت أم إبراهيم رأس ابنها عديّ معلقاً بجدار. لم تكن تدري ما يحدث في الخارج لولا أن طرق ابن جيرانها المبايع لتنظيم «داعش» الباب، لتفتح وتشاهد التجمهر الصامت أمام رأس ابنها المقطوع قبل لحظات.

شارك ابن الجيران في تنفيذ الإعدام، وبادر، من تلقاء نفسه، إلى إشراك أم إبراهيم في الفرجة على رأس ابنها. لم تجد ما تفعله وقتذاك سوى الدعاء عليه بـ«روح إن شاء الله ما يلتقى لك أثر». صارت هذه الدعوة مضرب مثلٍ في الانتقام الإلهيّ من المجرمين بعد أن قُتل ابن الجيران بغارةٍ لطائرات التحالف ولم يُعثر له على أثرٍ فعلاً، كما يؤكد الناس هنا في جرابلس التي يتبادل أهلها اليوم التهاني بخلاصهم من «داعش». ولكن لا يبدو أن تقهقر التنظيم سيخفف من هول ما لاقته هذه المرأة وغيرها من أمهات وآباء الضحايا. يقول صاحب دكانٍ يطلّ على الساحة ذاتها أنه شاهد معظم الإعدامات التي نفذتها «داعش» لكنه لا يريد أن يتذكر: «إش أحكي؟ شي ما ينوصف... كانو بعد ما يذبحون الزلمة ويعلقونه هناك يجون ياكلون كباب هين بهالمطعم». حسب نشطاء يبلغ عدد من قتلتهم «داعش» من أبناء المدينة (80)، ومثلهم ما زالوا مجهولي المصير في سجون التنظيم.

تسأل امرأةٌ وقفت أمام بيتها المارّة عن وجهة عناصر «داعش» المطرودين من المدينة، وتقول إنها مشغولة البال على مصير ابنتها المتزوجة من عنصرٍ في التنظيم، وتروي حكاية ذلك الزواج المشؤوم: «تجوزها غصب بعد ما كانت مرة أخوه اللي مات، وأخذها معاه. يقولون راحو عالباب، ويقولون عالرقة، وما أدري عن هالبنيّة شي». ويكشف قلق هذه الأم نوعاً آخر من الضحايا هو الفتيات اللواتي أكرهن على الزواج من «دواعش».

في الشوارع المغبرة بفعل حفرياتٍ متعددة الأغراض (صيانة شبكات المياه والكهرباء، وانتزاع الألغام، وغيرها) يسهل تمييز من تبقى في المدينة خلال احتلال «داعش» عن الوافدين الجدد بعد تحريرها، بما يظهر من علامات بؤسٍ في وجوه الأولين رغم تخلص كثيرٍ من الرجال من الزيّ الذي تفرضه داعش. في صالون حلاقةٍ تزاحم الراغبون في التخلص من اللحى الإجبارية، ويؤكد الحلاق أن أكثر من (500) شخصٍ قد زاروا محله خلال أسبوعٍ واحد. تخلصت معظم النسوة والفتيات من غطاء الوجه أيضاً، وعاد المدخنون إلى تبادل السجائر وإشعالها علناً دون خشيةٍ من أحد. ويسهم حضور مقاتلي الجيش الحرّ في تطبيع الأجواء وأنسنتها مقابل ما كان أيام «داعش». يقول معلم مدرسةٍ سابقٌ، كان منشغلاً بتوصيل الماء إلى بيته، إنه كاد يصاب بالجنون من حالات الضغط والرعب في كلّ لحظةٍ دون انقطاع، وخاصّةً مع إقامة بعض قادة «داعش» في جواره: «هذا البيت أخذو أبو حمزة العراقي، وهذا أبو بطيخ المصري، وهذا ما أعرف مين!».

تتوافق آراء أهل جرابلس، من مواقع توزّعهم المختلفة داخل المدينة وخارجها، على ضرورة بناء مؤسّساتٍ لإدارة المدينة وتجنيبها الفوضى. ويؤكد ناشطوها على أهمية تأسيس قضاءٍ عادلٍ وحازمٍ ونزيهٍ ينظر في مئات الجرائم التي ارتكبها مبايعو «داعش» من أبناء المدينة. وهي «جرائم تبدأ من الأذى والإهانات التي ألحقها «دواعش» بكثيرٍ من أهل البلد، وتنتهي بالإعدام والتعذيب حتى الموت في السجون»، كما يقول محمد، وهو ناشط في لجنةٍ أهليةٍ تهتم بشؤون السلم الاجتماعيّ. وتبدو المخاوف من وقوع حوادث انتقامٍ عشوائيةٍ مخاوف محقةً مع مستوى الضرر العميق الذي ألحقته «داعش» بالنسيج الاجتماعيّ للمدينة، فقد حرصت على استقطاب أكبر عددٍ ممكنٍ لها، من جميع المكونات العشائرية والعرقية في مجتمع جرابلس. ويعدّ محمد هذه القضية التحدي الأكبر المطروح أمام القوى والفعاليات الثورية والأهلية، ويحذر من «الارتخاء وتكرار أخطاء الماضي التي تراكمت من وقت تحرير المدينة من النظام لتفتح الباب أخيراً لاحتلال داعش لها». ومثل غيره من أبناء البلد يرى أن فقدان الاحساس بالمسؤولية العامة، والعصبيات العائلية والعشائرية، وكذلك الجهل والطيش؛ هي الأسباب الرئيسية لكل «الويلات التي مرّت بها البلد».

رغم تلك الهموم التي يتقاسمها كثيرون خرج مصطفى، وهو من أشد الكارهين لتنظيم «داعش»، يفتش عن علب دهانٍ ليبدأ حملته الخاصّة لرسم علم الثورة ومحو آثار «داعش».