تحولات «الحيوان»... حكاية لجدارن الحكم المتداعية

مصطفى يعقوب

توطئة اصطلاحية

سيكون من المُتعذّر والمملّ، وحتماً من المُمضّ، على القارئ أن يُجبَر على تحمّل تكرار اسم موضوع هذه المقالة مرّات ومرّات على مساحة صفحتين من «عين المدينة». ليس لانعدامٍ أو خللٍ مُتعمد في الموضوعية، ولا في إطار تحديد سياق غير حيادي قصدي، بل من أجل الالتزام بالراهن الوصفي له، فإنّ من الواجب التوضيح أنّ تعبيرات «الحيوان» و«السفّاح» و«الكيماوي» و«مُجرم الحرب» و«البراميلي» و«الوريث» ومشابهاتها واشتقاقاتها الواردة في المتن التالي؛ ستكون كلّها توصيفات لشخص واحد، سيرِد اسمه هنا لمرة واحدة فقط، وهو بالتحديد، بشار حافظ علي سليمان الأسد رئيس النظام السوري.

الفصل الأول: اختفاء قاسيون

في الرابعة أو الخامسة من عمره، فقدَ درّاجته، لا نعرف على وجه الدقة ما إذا كانت درّاجته حقّا أو أنّها منهوبةٌ من أموال الشعب، لكنّه كان صغيراً ليُدرك أنّ أباه، وزير الدفاع آنذاك، كان يستعد لتعفيشة العمر التي ستدشّن حقبة الجحيم السورية الطويلة، وبالطبع لايعرف أنّ فقدان الدراجة يعود إلى أنّ طفولته هي خسارة جانبية في مسار بناء استبدالات لأدوار الأهمية التي طبعت حياته.

كلّ من يلعب بدرّاجته في دمشق سيرى قاسيون، هذ قانون يعود إلى أول دورة عجلة في المدينة العتيقة، غير أنّ الولد الأجعد الذي تلاشى اشقراره –غير المفهوم في الواقع– مع تقدمّه في السن، لم يرَ قاسيون كما يراه أقرانه في المدينة مذّاك. وبعد انقلاب والده على رفاقه الذين شاركوه في تخمير هزيمة حرب 1967 المذلّة، وتحويلها إلى ثقب أسود سياسي؛ ابتلع منظرّي وفاعلي الواجهة البعثية غير العلوية واحداً وراء آخر، ثم انقلب على نفسه؛ ليخرج منه والد من سيكون بعد أربعين سنة سفّاح سوريا الأكثر دموية منتصراً في حرب داخلية لم تقع، وعلى مؤامرة «رفاقية» لم تكن.

من القصر الجمهوري لايُمكن أن ترى قاسيون الشامي، هو هناك مجرّد جدار هائل يحيط بدمشق ويحدد طرق السيطرة عليها، والفرار منها، وقبل ذلك إمكانيات تطويقها وتدميرها.

وفي الحقيقة، لايوجَد أصدقاء هناك أيضاً، كلهم إمّا أبناء أعداء محتملين أو أبناء أكباش محرقة سيُلقي بهم الأب في أتون سعيه المحموم نحو الحكم الأبدي. ولا أصدقاء أيضاً حتى في مدرسة «اللاييك» الشهيرة في دمشق، والتي تَعرّب اسمها إلى «الحرّية» في سياق حملة تعريب؛ هي في علنِها آخر بقايا سحل جثة البعثية العفلقية والناصرية في شوارع سوريا، وفي سِرّها مشروع بناء هويّة انعزالية تُبقي سوريا بلداً غير مشابه للزمن الراهن، وتوطيد صورة السفّاح الأب كـ«خليفة» مجدّد يضخ تقديسات إضافية لتاريخ حُذفت منه كلّ أخطائه، في منهج عسكرتاري شارك ضمناً في جعل «الجهادية» اللاحقة مجّرد انتقال إلى عملانية عشق الماضي، بعد أن اصطدم التلامذة الذين درسوا ذات المنهج مع المجرم الذي اختار البراميل المتفجرة «منهجاً جهادياً» مناوئاً.

الفصل الثاني: لحية الأخ الأكبر

كيف لشخص هو ابن رجل حيكت صورته ليكون «كل شيء» في سوريا أن يكون موجوداً؟ هذا غير ممكن فعلاً.

بعد سحق تمرّد الإخوان المسلمين في ثمانيات القرن العشرين، وعلى وقع حرب لبنان، بات الأب يعتقل كلّ سوريا. اختفت العائلة التي ظهرت في صورة ساذجة مع ريتشارد نيكسون بثياب ذات ذوق رديء.

وحده «الأب القائد» هو من يكون، وفي بُعدٍ آخر، هناك أبناء مراهقون تتوارى أسماؤهم وراء جدار يحجز معنى الدولة والنظام. الأب نفسه لم يعد في مسار تكريس سلطته الوحشية بحاجة إلى أسرته فاعتقلهم في الغياب، ولم يعد أحد في النظام أو في سوريا يشعر بحاجة إلى ذكرهم مع انفلات سطوة «المعلمين» من أمثال علي دوبا وعلي حيدر وشفيق فياض ومحمد ناصيف، والأهم في حضرة العم «الوريث» رفعت، حتى انهار الجدار على الأب في مرضه ليُنقذ نفسه بحرب أهلية داخل النظام، انتهت بطرد رفعت وبروز الحاجة إلى وريث جديد.

لم يكن «البراميلي» يُمثل أيّ خيار بالطبع، بل إنّ أحداً لم يسمع عنه شيئاً إلّا في حكايةٍ كاذبةٍ عن مشكلة تتعلق بسيارته في حلب، وكان ذلك وسط خرافات وبطولات تُنسج حول أخيه الأكبر، الذي صارت لحيته المشذبة بدقة مفرطة نقيضاً لهزال شقيقه الأصغر في زيّه العسكري المثير للسخرية.

انهار الجدار مرة أخرى بضربة قدَرٍ لم تكن في حسبان الطاغية الأب، مات باسل بحادث سيارة وأُعلن شهيداً «كامل الأوصاف»، وخرج «الكيماوي المضمر» من ظلّه لتُبنى له حكاية خاصة.

كان «المعلمون» مازالوا يمتلكون حضورهم القوي، وهم من رسَم خطوط وجوده، وبالرغم من خرافةٍ رعتها أجهزة المخابرات لحشره في إيجابية مُختلقة، تقول إنّه «مدنيّ وترباية الشام»، فقد استلزم الأمر تجربة واحدة لنكشف أثر «المعلمين» في شخصيته.

والمفارقة، أنّ خروجه من تحت لحية أخيه ودفعهِ نحو موقع «الوريث» الأكيد، استدعى تحطيم الجدار مرة ثالثة وإزاحة كلّ «المعلمين» الخطرين من طريقه، كانت ثمة قناعة راسخة لدى السوريين أنه هزيلٌ بما يكفي ليأكله رفاق أبيه بسرعة البرق، إن تُرك وحيداً دون غطاء الأب السفّاح.

الفصل الثالث: دبوس أولبرايت

أعطى أحد مساعدي بيل كلينتون ورقة صغيرة للرئيس الأميركي، وبعد ساعات ليست بالكثيرة كانت مادلين أولبرايت في دمشق؛ لتُقدم العزاء بموت الأب، وتعقد اجتماعاً مغلقاً مع من ستسميه أميركا لاحقاً «الحيوان». يقال إنّ دمشق كانت قد أُحيطت بجدار من المدافع والصواريخ استعداداً لإحراقها إن حدث ما يُعكّر صفو انتقال سوريا إلى عهدة الرئيس الجديد.

حُجز «المعلمون» بعيداً، وظهر طاقم «الخلافة» الجدد، ومرّت العملية بسلاسة مذهلة، حتى اكتشف السوريون بعد أّول جملة قالها في خطابٍ عامٍّ لثغته وبنوا عليها سخريتهم الأولى منه. وعند أول اختبار لـ «مدنيته» المُلفقة استعاد ميكانيزمات أبيه بحرفيتها... كان الأب يحكم من قبره.. هذه خلاصة قراءة السوريين له منذ سنته الأولى.

مُحاولته المزرية والكاريكاتورية لبناء شخصية مستقلة كانت فشلاً إضافياً، ثرثرات خطابية مُملة، ومنطق تساؤلي يكشف عجزه عن الإجابة. غرقٌ عميق في رعاية الإرهاب عزّزه تحالفه مع كل القتلة المُمكنين بعد حرب العراق، واندماج كلّي صاغر في المشروع الإيراني الذي لاذ به بعد أبيه بديلاً لجدارنه المتهاوية، وانكفاء نحو «منهج» المعلمين بعد اغتيال الحريري والخروج المُهين من لبنان.

يُمكن، على نحو خاص، ردّ هوسه السّقيم بالجدل إلى شخصية بهجت سليمان، وهو بحدّ ذاته مدعاة للنفور، ففي حين كلّف الرجل نفسه بتقديم «فلسفة» الطائفة وتحويلها إلى مسارات بلاغية ورطانات بلا طائل، فإن «المعلمين» السابقين والجسم التنفيذي في الآلة العسكرية للنظام، وعلى وجه التحديد الموالين لرفعت الأسد، يعتبرون بهجت سليمان مُجرّد «علّاك». لكن شخصاً مثل الحيوان سيجد في هذا «العلاك» فلسفة كاملة لتبرير «الإبادة» في هيئته الظاهرة.

هناك محاولة أخرى غير ناجزة للافتراق عن إرثه الفقير، كشخص في ذاته وكفرد من عائلة تعتبرُ القتل هو ممر الأبهة السلطاني الوحيد. ويمكن بسهولة ملاحظة الفارق المُفعّل بين تعبيرات الذوق الرديء لصوره مع عائلة الأب، وبين البذخ الفجائعي لصورة زوجته الأنيقة في تضادّ مع بدائية حكمه وسياساته. والواقع أنّ هذه النقطة، تُثير أيضاً تضاداً نفسياً يُمكن لقائمة المشتريات الضخمة لـ «الحيوان» وزوجته «مدام جحيم»، كما تسميها الصّحف الغربية أن تفضحه، إذ تُشير فواتيرها إلى دُور أزياء عالمية فاخرة، في حين أنّ مشترياته الشخصية المُفرطة تتركز على ألعاب الفيديو، وتطبيقات إلكترونية لابد أنها تملأ فراغاً ما تركتهُ الدراجة المفقودة، أو أنها تُنفّس ضغطاً عصبياً متزايداً في داخله الضعيف –كأيّ طاغية في الواقع– وتُغنيه عن عادة تحطيم الزجاج التي يعرفها من عاشروه.   

 

يمكن وصفه بـ «المعتوه» لكن هذا إجراء عمديّ، فهو ليس مختلاً بدرجة مُغايرة لبقية الطغاة، ومنهم أبيه. هو سفّاح بقراره، لص بقراره، ويحمل منذ تتلمذ على أيدي معلمي جحيم الثمانيات مشروع إبادةٍ جاهزٍ للتنفيذ بالسلاح الكيماوي والبراميل وبالرضوخ للحُماة الإيرانيين والروس،

كـ ردّ على أيّ تهديد لجدار حكمه الوحيد الذي لم يسقط، وهو أن قاسيون ليس سوى سور طائفي يُمكن منه قتل دمشق حين تحين ساعة الصفر.

دعوا عنكم حكاية الدراجة.. لم يركب يوماً سوى كرهه للحرية والحياة والكرامة، ثم قامت الثورة... وهذه حكاية تعرفونها.