بين الهولوكوست اليهودي والمحرقة السورية

ارتكب الناطق باسم البيت الأبيض شون سبايسر، قبل أيام، «غلطة العمر» حين قال عن السفاح بشار الأسد إنه «أسوأ من هتلر».

نظر إليه الصحفيون الحاضرون في المؤتمر الصحفي، بدهشة. فقد خرج الرجل، بهذه «الغفلة»، على إحدى أهم المحرمات في عالم اليوم. ليس هناك من هو أسوأ من هتلر ونظامه النازي. هذه هي القناعة الراسخة، منذ الحرب العالمية الثانية، في الرأي العام الغربي. معروف أن اللوبيات اليهودية-الصهيونية بذلت جهوداً كبيرة لتكريس هذه الفكرة، وخاصةً ما تفرع منها من موضوع المحرقة اليهودية (الهولوكوست). وما زالت الدولة الألمانية تدفع، إلى اليوم، تعويضات لإسرائيل عن ضحايا المحرقة التي يقول اليهود إن عددهم بلغ ستة ملايين يهودي.

على رغم شبهة المبالغة الكبيرة في الرقم المذكور، وعلى رغم تغطية ما أصاب اليهود على يد النظام النازي على ضحايا من أقوام أخرى كالغجر، نالوا بدورهم نصيبهم من المحرقة، فالثابت في الرأي العام الغربي هذا الانطباع: اليهود هم أكثر قوم تعرض للإبادة، لذلك فمأساتهم تتفوق على جميع المآسي، ولا تجوز مقارنة أي إبادة أخرى، من حيث القسوة والشمول، بإبادتهم.

الواقع أن عمليات التطهير العرقي لا تقتصر على ما نال اليهود على يد النازيين. فقد سبقتها مأساة التهجير الأرمني، وتبعتها مأساة التهجير الفلسطيني، إذا أردنا الاقتصار على هذين المثالين القريبين، تاريخياً ومن حيث القسوة والشمول. ولا تزال مجزرة حلبجة الكيماوية التي أباد فيها نظام صدام حسين 5000 من الكرد، طرية في ذاكراتنا. ومثلها مجزرة سربرنيتشا في البوسنة والهرسك على يد الميليشيات الصربية، والمذابح المهولة بين قبيلتي التوتسي والهوتو في رواندا، ومجازر دارفور في غرب السودان. وأخيراً المأساة السورية المستمرة منذ ست سنوات بلا توقف.

القصد أن المحرقة اليهودية، على فظاعتها، ليست وحيدة في نوعها، ولا «تتفوق» في مأساويتها على غيرها. لكن السياسة جعلت منها تابو (محرم) سنّت كثير من الدول الغربية قوانين تجرِّم من ينكرها، أو يشكك في وقوعها، أو حتى يقارن أي مأساة إنسانية فظيعة أخرى بها.

ردات الفعل الغاضبة على «غفلة» المسكين سبايسر الذي لم يرغب، بالتأكيد، في «الإساءة» إلى «مشاعر» اليهود والمتعاطفين مع مأساتهم، دفعته إلى الاعتذار في كل ظهور إعلامي بعدها. وهناك من طالبوا باستقالته من منصبه. لا نعرف هل يكفي الاعتذار مرات ومرات، أم أن «الغلطة» ستكلفه وظيفته. كما لا نعرف هل تمس غلطة الشاطر هذه الرئيس ترامب نفسه الذي ينطق سبايسر باسمه. ذلك أن أعداء ترامب كثر، يتلقطون عليه كل زلة، أبرزها فضيحة علاقته المفترضة مع الروس التي دفع مستشاره السابق للأمن القومي أول ثمن لها فأرغم على الاستقالة. ولا نعرف ما إذا كانت هذه الفضيحة، مضافاً إليها مآخذ كثيرة أخرى يأخذها عليه معارضوه، ستكلف ترامب كرسي الرئاسة نفسه.

الواقع أن هذه العلاقات المتوترة بين ترامب والرأي العام الأميركي، وبخاصة في موضوع علاقة إدارته بالروس، ربما كانت أحد أهم دوافعه في اتخاذ قرار ضرب مطار الشعيرات التابع للنظام الكيماوي بصواريخ توماهوك. فالضربة كانت موجهة إلى روسيا الوصية على النظام الكيماوي، أكثر من كونها موجهة إلى هذا الأخير بسبب استخدامه لغاز السارين المحرم دولياً.

ذلك لأن روسيا ضمنت نظام بشار الكيماوي، في صفقة تسليم هذا السلاح، بعد مجزرة الغوطة في 2013. وأكد بوتين، وقتها، أن النظام سلم كل مخزونه من هذا السلاح. بضربة ترامب لمطار الشعيرات أصبح هناك توافق دولي على أن النظام ما زال يملك غاز السارين الذي ضرب به بلدة خان شيخون. من هنا تأتي ورطة روسيا التي دفعتها إلى الاستماتة في تبرئة النظام وتكذيب القناعة الغربية الراسخة بأنه استخدم غاز السارين في خان شيخون، وربما بمعرفة الروس أنفسهم.

وجاءت «غلطة» المسكين سبايسر في إطار حرب التصريحات الكلامية هذه بين الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، من جهة، وروسيا وحدها من جهة ثانية. كان منطقياً أن يعكس الناطق تصعيد رئيسه غير المسبوق ضد «الحيوان» بشار الكيماوي على ما وصفه ترامب في مقابلة تلفزيونية. وكان التشبيه الأقرب إلى الذهن السوي هو هتلر! فنزل غضب السماوات والأرض على الرجل.