- Home
- مقالات
- رادار المدينة
الفراق مرة أخرى
لا يمكن أن تتجاهل غصة تصيبك، بينما تترك وراءك كومة من الدمار، والآلام والأحزان، وقليلاََ قليلاََ من الفرح، وعمراََ من الذكريات والحنين.
بينما تجدع أنفك بيديك، وتغادر البلاد، تلوح لك لافتات الترحيب الضخمة باللغة التركية -لن تحبّ هذه اللافتة، على أية حال- حتى لو لم تكن تعرف قبلاََ لغة هذه البلاد. وقد تتنفس بعد ذلك هواء نظيفاََ، ويكبر قلبك لحظة، بينما تعد نفسك بالرجوع، فماهية الفراق أن يهيأ للقاء بعده، طالما رسخنا هذه الفكرة في أرواحنا وعقولنا. وتجد عزاء كبيراََ في منفاك الجديد، بأن تجد حضن العائلة يعوض حضن الوطن، ستحب أن تكون فيلسوفاََ في هذه الحالة، وتحسن اختيار المعاني والكلمات، لتعرف فرقاََ هائلاََ وجوهرياََ بين غربة في المنفى الجديد، واغتراب داخل حدود وطنك الذي أحببت، حيث تنتظر وقت عودة التيار الكهربائي بكثير من الشغف، وآلاف التسبيحات بحمد وزارة الكهرباء الرؤوم.
هناك ستتعلم أن الدولار يتدخل في أجرة التكسي، وأسعار البضائع، وفي عدد أنفاسك اليومية. لا بد أن تتقن في أوقات الحاجة لغة التجارة والاقتصاد، ويالسخرية القدر! فلربما احتميت بمحل تاجر دم تمقته، بينما تدوي صفارات الإنذار مؤذنة بسقوط قذيفة قريباََ منك، فتقتلك، أو تتركك لتمنحك ترف الوقوف على الأطلال، والطواف حول سور حديقة جميلة، تنفث دخان سجائرك لتلعن أولئك الحمقى في ذاك الحي الدمشقي الذي تقطنه، حيث تبدو علامات السعادة على وجوههم، بينما تسقط حمم جيشهم الباسل على رؤوس «الإرهابيين» في الغوطة.
ستستغرق في التفكير دقيقة لتستسلم لصواب قلبك ورجاحة عقلك، فلا وطن يجمعك مع الذئاب الواقفين على الحواجز الأمنية في دمشق، ولا مشاعر تربطك بشقة تطؤها أقدام المجرمين من الطائفة «الكريمة» عند تمام الخوف، عند السابعة صباحاََ، باحثين عن «المخربين» دورياََ. ستجهش بالكراهية والحزن، بينما تعلن أمام نفسك أن لا قداسة لدمشق بصورتها الحالية في نفسك، عن أي ياسمين دمشقي يتحدث أولئك المعتوهون! وستكره الياسمين الدمشقي أكثر إذا علمت أن «السيدة الأولى» صارت تلقب بسيدة الياسمين. لقد أسلمت دمشق قيادها لوحوش يقودونها إلى الجحيم كيفما شاؤوا.
لكنك الآن هنا غريب، تحاول البحث عن نفسك، أياََ كان سبب وجودك هنا، ومهما أنزلت لعناتك على المؤيدين وكل الرماديين والعلمانيين الذين أغمضوا أعينهم عن حريتهم «المقدسة»، عند أول تهديد بالاعتقال تعرضوا له، أنت هنا بغض النظر عن عمائم السوء، وشيوخ الدجل واللحى اللاصقة، وجنود الخلافة الاسلامية وخليفتهم المعتوه. أنت هنا، ولا قيمة لأسبابك الشخصية في وجودك هنا، فهنا ستهرب من جحيم التجنيد الإجباري، ودوريات السحب الاحتياطي، وهنا ستكون بمأمن من قذائف الحرب في بلادك، وهنا لن تضطر إلى اختراع الروايات لأطفالك الصغار عن ماهية الأصوات المرعبة التي تقض مضاجعهم كل ليلة.. هنا سيعاود الحلم زيارة أطفالك، وسيكون بإمكانهم انتظار زيارة بابا نويل. كل ذلك لن يغنيك عن الدوران في ذات الدوامة كل ليلة.
ستسأل نفسك أسئلة كثيرة عن معنى حزنك الدائم في الشوارع الطويلة الجميلة في المنفى الجديد، وستحب تعذيب نفسك ولومها، حين تقرر الخروج في نزهة مع أصحابك. لا يحق لك العيش هنا، بينما يموت الناس هناك. عار عليك أن تتوسد الإسفنج المضغوط هنا، وتلتحف الديباج، بينما يقضي أحبابك شتاءهم مفترشين الأرض، ملتحفين السماء. أية قسوة في قلبك تجعلك تتلذذ بالطعام في المطاعم الفاخرة، بينما يتضور أبناء جلدتك جوعاََ في العراء. ستبكي مراراََ، وتنتحب، وتغط في حزن عميق، فالهواجس بحر يحاصرك من كل جانب، ولن تجد إلا ظلالك المكسورة، تطل من جهاتك الأربعة؛ تذكرك بجدران السجن الباردة، التي يخط عليها المعتقلون وصاياهم الأخيرة، وترسم لك مخطط قبور أحبابك، في الحدائق المعلقة بين أحلامك؛ وبالميادين التي تضج بصيحات الأحرار الذين ثاروا حتى الثمالة، وهز كيانهم أن سمعوا هتافاََ بأصواتهم، لأول مرة في العمر؛ وستذكرك بالوطن، الوطن الذي تعرفه أنت، كما لا يعرفه الكثيرون، الوطن الذي يعني دمشق التي تحب، كمساحة من الروح مترامية الأحزان على امتداد قلبك ونبضك، على امتداد هذه الرقعة الجغرافية من جهاتها الأربعة، وليس دمشق التي أرادوها.
ستعود بذاكرتك إلى غصة لافتة الترحيب التركية، لتغير شيئاََ ما في الرواية. ستبدأ من جديد: أيتها الأميرة المقيمة بين الثنايا، يا سيدة النعيم والجحيم، أيتها الجاذبة النابذة، يا ملتقى الأضداد، يامن احتضنت الغرباء ولفظت أولادك: وداعا يتلوه اللقاء.