الصحافة الاستقصائية في إدلب.. حضور في الدورات وغياب في الواقع

مختارات الشبكة العالمية للتحقيقات الاستقصائية العربية لعام ٢٠١٩

يعج الواقع السوري بالعموم، وشمال غربي سوريا على وجه الخصوص، على الكثير من القضايا والشؤون التي تحتاج إلى الوقوف عندها وتسليط الضوء والبحث والتدقيق بغرض الكشف والمعرفة والإدانة وربما تحريض الجمهور على المحاسبة لاحقاً، الأمر الذي تقوم به الصحافة الاستقصائية تعريفاً لكن ذلك غير متاح في إدلب على الدوام.

يقول الصحفي زيد مستو: "الصحافة الاستقصائية واحدة من الأجناس الحديثة نوعاً ما في الصحافة العربية، وتختلف عن الأجناس الأخرى في أن الصحفي يحقق في قضية أو ظاهرة من خلال جمع الأدلة والاستعانة بالمصادر ومقارنتها وتحليلها ومن ثم عرض نتيجة التحقيق. يمكن أن يكون التحقيق مكتوباً أو مصوراً أو أن يجمع بين المرئي والمكتوب".

ويتابع مستو الذي أسس "معهد مصداقية الصحافة" في الولايات المتحدة الأمريكية "تختلف الصحافة الاستقصائية عن التقليدية التي يكتفي فيها الصحفي بنقل الروايات والأخبار من المصادر دون التحقق من صحتها".

ويوضح أن الصحافة الاستقصائية ظهرت بدايةً في الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينيات القرن العشرين، بينما تفتقر المنطقة العربية بشكل عام لهذا النوع من الصحافة خاصة في مناطق الصراع، وفق مستو الذي يضرب مثالاً عن هذا الفقر بمحافظة إدلب التي "من النادر جداً أن نرى تحقيقات استقصائية تخرج منها، بالرغم من وجود العدد الكبير من العاملين في مجال الصحافة". ويعيد السبب في ذلك إلى "قلة المعرفة بشكل عام لدى المجتمع العربي بهذا النوع من الصحافة، والسبب الثاني خوف العاملين في هذا المجال على أنفسهم، لأن البيئة التي يعيشون فيها بيئة صراع ولا يوجد دولة أو قانون يحمي الصحفي، إضافة إلى عدم وجود جهات ممولة بشكل كاف لهذا النوع، فمن المعلوم أن التحقيقات الاستقصائية تحتاج للتمويل ريثما يتم الانتهاء من التحقيق".

وأقام "معهد مصداقية الصحافة" الذي يديره مستو بالتعاون مع جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة، دورة في الصحافة الاستقصائية استهدفت الدورة صحفيين وناشطين في شمال سوريا. أحد الحضور الصحفي منصور صبرة يحكي ل"عين المدينة" أنه يتعامل مع الصحافة الاستقصائية على اعتبارها "فن جديد وتحتاج إلى مهارات عالية، سواء بانتقاء المواضيع بعناية أو البحث عن الأدلة والإثباتات التي يحتاجها الصحفي، فالعامل في هذا المجال يجب أن يتميز بمهارة وخبرة، و للوصول إلى هذا المستوى فلا بد من الدورات والورشات التدريبية وبشكل مكثف حتى يتمكن الصحفي من إنجاز التحقيقات. في هذه الدورة اطلعنا على مدى أهمية هذا النوع من الصحافة وتعرفنا على خطوات البدء بالتحقيق الاستقصائي".

ويضيف صبرة: "بالحضور في مثل هذه الورشات سيكون لدى الصحفي منهجية عمل مهنية يستطيع من خلالها إنجاز تحقيقات ترتقي إلى مستوى التحقيقات الأجنبية، فأنا أرى على المدى القريب أهمية تكثيف هذا النوع من الدورات، وأشجع الزمالات من قبل الجهات المهتمة بهذا النوع لأنني أرى أن أكثر المناطق التي هي بحاجة للصحافة الاستقصائية هي مناطق الحروب والنزاعات".

وظهرت في شمال غربي سوريا بعض التحقيقات الاستقصائية لبعض الصحفيين السوريين، وللوقوف على الصعوبات التي تواجه الصحفيين الاستقصائيين كان لعين المدينة حديث مع الصحفي الاستقصائي السوري  مصعب الياسين.

يقول مصعب: "أبرز الصعوبات أن الصحفي لا يمكنه الوصول إلى السجلات العامة وإلى المستندات المتعلقة بموضوع التحقيق. حتى عند المنظمات الإنسانية لا يمكن الوصول إلى هذه البيانات، واجهت ذلك بنفسي. بالإضافة إلى المعوق الأمني، فالكثير من الصحفيين يقومون بإنجاز تحقيقات بغير أسمائهم الحقيقية لأن مناطق الحروب لا يأمن فيها الصحفي على حياته. ومن الصعوبات أيضاً طريقة تعاطي الجهات الإعلامية مع الصحفيين في موضوع الأجور، فالصحفي الذي يعمل في الداخل السوري يتقاضى أجور متدنية بالمقارنة مع أجور الصحفيين في الدول الغربية، فالصحفي في الداخل الذي يتقاضى مبلغ 800 دولار لقاء تحقيق استقصائي هو صحفي ذو حظٍ عظيم".

ويؤكد الياسين بأنه حتى هذا اليوم وبعد أكثر من عشرة أعوام من الثورة، فإن الرأي العام شمال غربي سوريا لا يعلم شيئاً عن التحقيق الاستقصائي، وكيف يختلف التحقيق الصحفي عن التقرير الصحفي.

ويختم الياسين الصعوبات التي ذكرها بأن الصحفي لا يتاح له توقيع عقد ملزم مع الجهة التي يعمل معها يؤَمن من خلاله على نفسه أو معداته أو حتى تعويضه في حال لحق به ضرر. ويؤكد أن هناك العديد من الحالات التي وثقها بنفسه من خلال تحقيق نشره في موقع "درج" وثق فيه العديد من الحالات التي تعرضت للضرر ولكن الجهات التي كانوا يعملون لصالحها لم تعوضهم بشيء.

الصحفي الاستقصائي محمود البكور يرى أن تعاطي الجهات المعنية مع التحقيق يكون بحسب الموضوع الذي يتناوله، ولكن غالباً يكون تعاطي الجهات المعنية سلبياً في حال كان التحقيق يكشف خرقاً أو تجاوزاً، كما حدث معه عندما كان ينجز تحقيقاً عن الأطفال مجهولي الأباء وإذا ما كان يتم متابعتهم بشكل قانوني. يقول عن ذلك: "كان هناك تحفظ كبير من قبل الجهات المسؤولة على إضبارات الأطفال، وصارت تصلني مضايقات (وطلبات) بعدم إكمال التحقيق حتى وصل الأمر إلى التهديد المباشر في حال تابعت التحقيق".

من جهته يرى مصعب الياسين أن تعاطي الجهات المعنية مع بعض التحقيقات قد يكون إيجابياً، كما حدث عندما نشر أحد الإعلاميين تحقيقاً يحكي عن المياه السطحية الملوثة المتجمعة في سهل الروج غرب مدينة إدلب، فبعد نشر التحقيق بدأ الدفاع المدني بردم مسطح المياه الملوثة.

في كل مرة ينشر فيها تحقيق استقصائي يظهر جلياً مدى تأثير هذا النوع من الصحافة في العالم، حيث تساهم في سن قوانين أو إبطالها كما تشارك في عزل مسؤولين ومحاسبتهم واستقالة وزراء ورؤساء حكومات ودول، بينما يشير ظهور تحقيق في إدلب إلى كون الصحفي يعيش خارجها، أو أنه يرزح فيها تحت الكثير من الضغوط والتهديدات التي لا تشجعه على بدء تحقيق جديد، أو أن معلومات التحقيق غير مكتملة بسبب التعتيم على المعلومات والوثائق أو رفض المساعدة.