الذاكرة الحزينة ...نحو الشرق نحو دير الزور

مسافات طويلة تحددها لافتات الطريق من حلب إلى الرقة إلى دير الزور، يتعين على الراكب  قطعها على هدى الأسهم المتجهة نحو الشرق، وفضلاً على المسافة والاتجاه، تلامس اللافتات محلات أعمق في وجدان أبناء دير الزور، وكذلك يرتسم الطريق بصور مرهفة في هذا الوجدان.

للمسير هنا نكهة خاصة بطعم الصمت المطبق على جانبي الطريق وطعم تبعثر البلدات وفرارها متعاقبة على مد النظر، في مخيلة كل (شرقي) صور شتى للدرب الصحراوي الطويل، تستفز إحساسه بالانتماء لجزء مختلف من البلاد.
فالانتماء لشرق سورية هو انتماء نفسي واجتماعي، وكذلك سياسي أيضا في بعض الأحيان، وقد تسنده الجغرافيا وقد لا تسنده، فشمال شرق سورية هو شرق فقط عند معظم السوريين، وأما الشمال الغربي فهو شمال تماماً وليس غرباً، وعلى هذا يكتمل المفهوم عموما، بتوزيع لا تسمح بأن يكون دقيقاً، التقسيمات الإدارية لدولة ليست صغيرة، وليست كبيرة أيضاً.

تشكل محافظات دير الزور والحسكة والرقة المنطقة الشرقية في التقسيم الإداري للجمهورية العربية السورية، وتشكل المحافظات الثلاث مجتمعة حوالي 40% من مساحة البلاد. وحسب التصنيف الرسمي لوزارات النظام الحاكم عدّت هذه المحافظات مناطق نامية، لكنها لم تنمُ خلال خطط البعث الخمسية المتتالية. بل قامت سياسات النظام نحو المناطق النامية ودير الزور على وجه الخصوص، على صرف أقل ما يمكن من نفقات عامة، وعلى تقديم أقل ما يمكن من فرص عمل وتعليم ومعدلات تنمية وخدمات،  بالمقابل أخذ أو سرقة كل شيء تقريباً من خيرات هذه المحافظة، من النفط الذي اكتشفنا متأخرين عوائده الضخمة، ومن الغاز الذي يغذي نصف سورية، ومن المحاصيل الزراعية الهائلة؛ وكانت النتيجة مزيداً من الإفقار والتهميش.

فحكومات الأسد لم تحرك ساكناً بعد جفاف نهر الخابور، وبوار مساحات شاسعة من الأراضي التي كانت لعقود سابقة مزروعة ومروية بمياه هذا النهر، ولم تفعل شيئاً يخفف من وطأة الفقر، أوالنزوح والتشرد لسكان قرى الخابور التي صنفت بين أكثر المناطق فقراً في العالم. في الوقت الذي جرت فيه مياه نهر الفرات لمئات الكيلومترات لري أراضٍ بعلية في سهول حلب، وأقيمت مشاريع ري أخرى في جبال الساحل وسهل الغاب. و لسنوات ظلت دير الزور أو بعض قراها مستوطنات لعدد من الأمراض والأوبئة، وظل أبناؤها يشكلون الفئة الأكثر عدداً في قوائم المصابين بالسرطان، ودون أن يجرؤ أحد على المطالبة بافتتاح مركز أو مستشفى لمعالجة الأورام، لأن ذلك سيفتح الباب على القضية الأخطر، وهي تفسير معدل الإصابات المرتفع بهذا المرض في المحافظة دوناً عن غيرها من المحافظات الأخرى.

لم تختلف النظرة لدى بعض، وربما أكثر، السوريين نحو أبناء المنطقة الشرقية عن نظرة نظام الأسد لهم، بأنهم أبناء المناطق النامية النائية المتأخرين حضاريا واجتماعيا عن أقرانهم في باقي البلاد. فالفضول البليد هو غالب ما قد يجده الديري «المتخلف» من أخيه  المفترض في الوطن. ومن الشائع أن يسمع ابن دير الزور أسئلة بلهاء من زميله في الجامعة مثل (صحيح انتو عايشين بخيم ؟..عندكم سيارات بالدير؟ ...عندكم بنايات؟ ..عندكم بنات بيلبسوا سبور؟...في عندي رفيق من الحسكة من بيت فلان بتعرفو ؟)

ولإثبات أن دير الزور جزء طبيعي من سورية كان على أبنائها أن يبذلوا جهوداً مضنية في الشرح والتعريف بها أمام الآخرين، دون أن تفلح هذه الجهود دوماً بتبديد الصورة المتوهمة، عنها وعنهم، بأنهم ليسوا سوريين بما يكفي. تلك الصورة المتخيلة عن دير الزور والسلوك النابع عنها لدى السوريين الآخرين، هي إحدى منعكسات الكسل المعرفي الذي أورثه النظام  لدينا جميعاً، وما زلنا نتلمس آثاره، جهلاً ساذجاً بالبديهيات، ومفاهيم شبه عنصرية، تولد صراعات و تنافسات بين مدينة وريف، أو بين مدينة ومدينة أخرى.

كان من المرجو، في مرجوات الثورة السورية الكثيرة، أن يتبدد كل هذا، ويعرف الناس بعضهم البعض من جديد، وقد تحقق مقدار من هذا الرجاء في العامين الأول والثاني من عمر الثورة، لكن ما تبقى من الجهل وآثاره ظل يفعل أفعاله بين حين وآخر، بتقاذف التهم والإساءة والإهمال لجماعات أهلية كاملة، أو بمزاعم البطولة والإخلاص دوناً عن الآخرين.