الكاريكاتير لمحمد ملندي

لعل ما حدث مع أمل عرفة عقب المشهد الشهير في مسلسل "كونتاك" هو أوضح صور الدراما السورية، وأكثرها عمقاً وانتماءً إلى هذه الدراما، ومفهومها ودورها ووظيفتها.

ليس القصد هنا هو المشهد الذي ذاع صيته، والذي قدمت فيه أمل عرفة دور امرأة تدّعي موت ولديها أمام الكاميرا، وتتآمر مع المصورين ومع منظمة الخوذ البيضاء لتشويه الحقائق وفق ما يدعي المسلسل، ولا حتى اعتذار الممثلة عن هذا المشهد، وادعائها بأنها لم تقصد إهانة جراح السوريين فيه، بل القصد استبعاد الممثلة الشهيرة عن الإعلام الموالي بعد هذا الاعتذار، ورفض بث مقابلاتها، والتلويح غير المباشر إلى أن هذا الاعتذار هو خيانة.

هذه هي الدراما السورية تماماً وهؤلاء هم ممثلوها، لا يحقّ لهم لعب دور أكبر مما رُسم لهم، ولا يحق لهذه الدراما أن تؤدي وظائف بعيداً عما حُدد لها في السلطات المخابراتية التي تصنعها منذ عشرات السنوات، وتقدم فيها ما ترغب من رسائل، ومن جرأة أيضاً في النقد؛ الجرأة التي كانت مدعاة احتفاء الفنانين بدراماهم، حين كانوا يعتقدون أنهم يكسرون حاجز الرقابة بالفعل، ويتغنون بمناقشة قضايا الفساد في أعمالهم، وتقديم صورة المسؤول السوري الفاسد، الصورة ذاتها التي كانت المخابرات السورية تدعم وبقوة تقديمها وتصديرها، وإقناع الجمهور بها، بل وإقناع القائمين على الأعمال الدرامية بأنهم يؤدّون رسالة إنسانية جريئة في فضح الفساد حين يشاركون فيها.. 

الجميع كان يحدس أن تقديم الفساد بهذا الشكل مطلوب رسمياً قبل أن يكون مطلوباً جماهيرياً، مهمته الإيهام بالحرية من جهة، وتنفيس لكبت دفين لدى الجمهور من جهة أخرى، والأهم من ذلك الصورة الناصعة البراقة التي تظهر فيها السلطة العليا وهي تحارب الفساد أو تقضي عليه، فتقيل مسؤولاً صغيراً هنا، وتفضح آخر هناك، وتصفّي حسابها مع هذا وذاك إن شاءت تحت مسمى "الحرب على الفساد".

دخلت الدراما السورية منذ أكثر من عقد ونصف في دوامة الصورة النمطية: حرب يقودها الطبيب القادم من جامعات الخارج ليحكم بلاداً يأكلها الفساد، فيستجيب لمطالب جماهيره، ويشاهد المسلسلات الجريئة ثم يستيقظ ليعيد ترتيب البلاد.. لتصدّر في النهاية صورة "دراميةً" تماماً في الجرأة التي تعتبرها الدراما السورية أحد ثيماتها الأساسية، وفي الوقت ذاته تلعب الدور المرسوم لها تماماً، وتنتصر للنظام قبل أن تنتصر لأي شخص آخر. ولعل الإعلان التام وغير القابل للتأويل الذي أعلنته مجمل الأعمال الدرامية السورية التي أُنتجت في سوريا بعد 2011- بالتبعية الكاملة والمطلقة للنظام من خلال رسائلها وموضوعاتها، كان أوضح دليل على ماهية هذا الفن الذي فاض من شاشاتنا سنوات عدة، كان ممتعاً في بعض تجلياته لا شك.

لا يبدو المشهد مختلفاً كثيراً في تلك الأعمال التي تثير لغطاً حولها، كمسلسل دقيقة صمت، الذي لا يبدو بعيداً عن الشكل العام والوظيفة العامة لهذه الدراما، فما طرحه من جرأة ليس جديداً أبداً، بل وطُرح سابقاً بشكل أوضح وأنضج إن صح التوصيف، لكن قيام كاتب العمل (سامر رضوان) بإعلان موقفه الجريء من النظام السوري، بالتماشي مع عرض المسلسل، خلق ارتباكاً لدى أسرة المسلسل ومنتجيه، قبل الارتباك لدى المشاهد، وقبل أن يسأل أحد نفسه "هل هذا المسلسل معارض للنظام السوري؟" في الحقيقة لا يبدو كذلك من تفاصيل العمل، بل يبدو أنه يندرج ضمن صيغة أعمال تناقش الفساد، وترمي ما ترميه عليه.

سبقت المسلسل إلى ما ذهب إليه عشرات من الأعمال السورية -بعضها للكاتب نفسه- إلا أن وضوح رضوان فيما يرى، وموقفه المعارض كلياً دون هوادة لرئيس النظام السوري، جعل القضية تدور حول منتجيه، ومؤسسات النظام التي وافقت عليه، فجاءت التصريحات متضاربة بين مخالفات قانونية، وتبرئة هذا من ذنب ذاك؛ وهو ما صب بشكل واضح في جماهيرية المسلسل، وربما في سياق فهمه، وهو ما يحسب للكاتب، الذي يبدو أنه يريد بالفعل أن يقول للجميع، "هذا مسلسل معارض ولكن هذا هو السقف الذي يمكننا تقديمه".

ربما كانت رسالة الكاتب واقعية ومنطقية، وما اتخذه من موقف صرخة جريئة، وانسحاب أيضاً من العمل والإنتاج الفني داخل سوريا. انسحاب إن لم يعلنه فسيكون مفروضاً عليه بالتأكيد، فقد تجاوز الدور المحدد لكاتب درامي سوري، ووظف المسلسل في مكان لا يُسمح له بتوظيفه وفق مقاسات السلطات السورية، بالتالي خرجت الدراما السورية في هذا المسلسل عما طُلب منها، وهو ما لا يقبله المنتج الأساسي لهذه الدراما، أي المخابرات.