الجلاء... عيدٌ بأيّة حالٍ عدتَ يا عيدُ

من صفحة "دولتي" على الفيسبوك

بعد قرابة سبعين عاماً على رحيل الاستعمار الفرنسيّ، وبعد سيادةٍ واسعةٍ للأفكار "التقدمية"، إن كان على مستوى النخب الثقافية أو السياسية؛ يكتشف السوريون أنفسهم حفاةً عراةً إلا من إرادةٍ نمت وترعرعت وتصلبت عبر تاريخٍ طويلٍ كُتِبتْ حروفه في ذي قار واليرموك وحطين، وصولاً إلى درعا والغوطة وحمص وحلب ودير الزور وباقي الميادين، في وطنٍ يتكالب الأقزام على نهش روحه وجسده.

من عام 1946 وحتى عام 2014 عاشت سوريا سيرورة انتقالٍ تاريخيٍّ من استعمارٍ تقليديٍّ إلى استعمارٍ استيطانيٍّ نسج حزب البعث خيوطه الأولى والأساسية، وكان حجر الأساس فيه هزيمة 1967 وابتلاع الكيان الصهيوني للجولان. ولاحقاً، بعد دخول البعث في حالة موتٍ سريريّ، استلمت النول حثالات سرايا الانبطاح وضابطو الإيقاع من أجهزةٍ مخابراتيةٍ دموية، مع تغطيةٍ نظريةٍ من محنّطي ما سمّي بالجبهة الوطنية التقدمية. ووصل هذا الاستعمار ذروته في أيامنا هذه، مع دخول عصاباتٍ إجراميةٍ استقدمها النظام من إيران والعراق ولبنان والجزائر وغيرها من البلدان للدفاع عن سلطانه المتهاوي، مع قرع طبولٍ من إعلاميين "مقاومين وممانعين" لبنانيين كانوا مخبرين أيام الاحتلال الأسديّ لبلدهم.
بدأت فصول الانحطاط في خمسينيات القرن الماضي بتنافسٍ صاخبٍ بين القوى السياسية "التقدمية"، التي كانت تتسابق في مزاودةٍ شعاراتيةٍ تدّعي تمثيل الجمهور والعمل على خدمته وتمدينه وفتح أبواب الملكوت الأرضيّ له، مع شيطنةٍ كليةٍ "للرجعية" وتحميلها مسؤولية كل المصائب. اكتمل النصاب في الستينيات بدخول الحركة الناصرية السيرك السياسي، فأصبح لدى الجمهور المسكين طلائع من كل النكهات تتسابق لتحمل "الوعي" له وتحرّره من الجهل والتخلف. وظهرت كتائب الحرس "القوميّ والبروليتاريّ والفلاحيّ"، وصولاً إلى الحرس "الناصري والبوتفليقي" في عام 2014. وفي حقبة السبعينيات أطلّ مفكرونا العباقرة وكشفوا زيف التاريخ الذي كتبه "المنتصرون" الرجعيون، فأتحفونا بوجود يسارٍ في الإسلام يمثله الشيعة، واكتشف أدونيس "الثابت" والعقل المستقيل الذي ينتمي إليه أغلبية الجمهور، مقابل "العقل" الذي يحتكم إليه مالكي العراق وملالي إيران ولبنان.
تكمن في أساس هذا التضليل رغبةٌ محمومةٌ في تشكيل سيادةٍ ماديةٍ لصوصيةٍ ومعنويةٍ تافهةٍ وسطحية، يكون شرط استمرارها فصل الشعب عن السياسة عبر فكرة الوكيل "الطليعيّ"، وفصله عن الدين بالمعنى التحرريّ، عبر "حساسين" تحولوا إلى ضفادع تسبّح بحمد ومديح السلطان، وفصله عن أي تشكلٍ اجتماعيٍّ وتجميعيٍّ إلا في مسيرات التأييد والأعراس "القومية" ومباريات كرة القدم والسلة التي عمل النظام السوريّ وغيره على تحويلها إلى حروبٍ بين قطاعات أهلية. ومباراة الكرامة والاتحاد في اللاذقية، ومباراة الفتوة والجهاد في القامشلي عام 2004، ومباريات الاتحاد والوحدة بكرة السلة؛ أمثلةٌ على ذلك.
كان من الطبيعيّ غياب كل "الطلائع" السياسية عندما حضر الشعب إلى ميادين التحرّر في آذار 2011. اختفت "الطليعة" البعثية وحلّ محلها "الجيش العقائديّ والجهات المختصة" الحاصلة على وسام الاستحقاق الهتلريّ في التصدّي للمؤامرة المزعومة. واختفت "طلائع" المعارضة وتوارت خلف الشعب الثائر بتواضعٍ زائف، بحجّة أنها لا تريد أن تفسد عفوية الحركة الشعبية، في حين أنها شعرت في حقيقة الأمر بولادة منافسٍ ليس من السهل تطويعه، يريد أن يقول كلمته بدون وساطة سماسرة الكلام، ويؤسّس لسيادةٍ يكون هو مصدر الشرعية فيها.
لم يكن أمام نظام الاستعباد من سبيلٍ للبقاء حتى الآن سوى التعويل على "الأصدقاء". ولم يكن أمام قوى المعارضة سوى التعويل على "أصدقاء الشعب السوري" - يا سلام! - وتذكيرنا كلّ يومٍ بأن أوراق الحلّ في يد القوى العظمى، وهي مقولةٌ سبقهم إليها أنور السادات قبل 40 عاماً. لم يكن هذا رأي الشعب الفيتناميّ، ولم يقل مثل هذا الشعب الأفغانيّ، ولن يقول هذا الشعب السوريّ، الذي يعرف أن من يمنع عنه مضادات الطيران ليس أقلّ وحشيةً من الذي يلقي عليه براميل الموت. ويعرف أن فورد، الذي شهد ذبح الأغلبية بضحكةٍ خفيّة، ليس مكترثاً لحقوق الأقليات.
من يريد أن يشارك في صناعة أفراح النصر لشعبنا عليه أن يكون صريحاً مع هذا الشعب. وعليه أن يعرف أن السياسة ليست حرتقةً وفهلوةً وتطبيقاتٍ وكواليس على طريقة فريال خانم في مسلسل باب الحارة، بل هي التزامٌ بمصالح الوطن العليا وتنافسٌ على التضحية لا على احتلال المساحات الواسعة على شاشات التلفزة.