استقلال القضاء السوري
ضرورةٌ لتحـــقيق العـــــدالة

منذ أوجـــــد الاســــــتعمار دولـــة سورية باتفاقية سايكس بيكو، التي هدفت إلى تجزئة العالم العربي، عملت حكومة الانتداب الفرنسي وما تلاها من حكومات بعد الاستقلال، التي جاءت بها الانقلابات، على تكريس السلطة التنفيذية كسلطةٍ مطلقةٍ تنبع منها كل السلطات والحقوق، مع تقليص دور السلطات الأخرى، وبخاصة السلطة القضائية، حتى لا تكون مراقبةً على السلطة التنفيذية، وحكماً في تجاوزاتها على الحقوق، ومانعاً لها من الاستغلال، والاستئثار، ونهب مقدرات الشعب، والانفراد بقرارته.

ولم تكن الفترات القليلة التي ملك فيها الشعب زمامه كافيةً لتعديل هذا الواقع، لقصر تلك الفترات من جهة، ولمناهضة مؤيدي السلطة القمعية لأي توجهٍ بهذا المجال، من جهةٍ أخرى... وهكذا عملت هذه الحكومات على تقسيم القضاء بين مرجعياتٍ مختلفة تتبع جميعها السلطة التنفيذية، حتى لا تكون كتلةً واحدةً تقف في وجه تسلّطها.

فتبع القضاء العادي لوزير العدل (فعلاً)، وأتبع القضاء العسكري لوزير الدفاع، والقضاء الإداري لرئاسة مجلس الوزراء، والقضاء العقاري لوزير الزراعة، والمحكمة الدستورية لرئاسة الجمهورية. ومُنحت الجهات التي يتبعها القضاء صلاحياتٍ واسعةً في التعيين، والنقل، والندب، والتأديب، والعزل... بحيث حُوّل القضاة إلى موظفين تتحكم برواتبهم، وأعمالهم السلطة التنفيذية التي أضحت لها اليد الطولى في التعيين، والتمديد، والعزل، وتحديد الرواتب، وسن التقاعد... إلى غير ذلك من شؤونهم الأساسية. ولم تكتفِ الحكومات بهذا، بل مدّت يدها لجهات التوثيق التي تتبع القضاء في الطعن بما تقرره، والتي هي مستند الحقوق، وأحوال المواطنين... فعزلتها عن مؤسسة العدل، وألحقتها بجهاتٍ تنفيذيةٍ أخرى، فأتبع السجل العقاري إلى وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي، وأتبع السجل التجاري والصناعي إلى وزارة التجارة، وأتبع سجل الأحوال المدنية إلى وزارة الداخلية، وأتبع الكتّاب بالعدل إلى وزارة العدل، مع صلاحياتٍ واسعةٍ للوزراء على هذه الجهات الموثقة للحقوق والأحوال. وكل ذلك كي تبقى السلطة التنفيذية حكماً فيما يُنفذ أو لا يُنفذ من قرارات قضائية بهذا الشأن، تحت غطاء مسؤولية الوزراء السياسية.

كمــــا أن الجهـــــــــات المســـــاعدة للقضاء أضحت عبارة عن أداة بيد السلطة التنفيذية، تعيق ما تشاء من قراراته، وتفرض ما تريد، أو تُؤخره، فتحكمت بنقابات المحامين، وهيئة قضايا الدولة، ومخابر الأدلة الجنائية، والطب الشرعي، والضابطة القضائية... ولقد أدى ذلك كله إلى تشتت القضاء، وتضارب أحكامه، وغلّ يده عن تنفيذها إذا تعلقت بحقٍ لا تريده السلطة التنفيذية. كما أدى إلى تحكم السلطة التنفيذية التابعة للحاكم المطلق الصلاحية بالقضاء والقضاة، مما أفسد القضاء بعد أن دسّوا في صفوفه من يرضونه منفذاً لإرادتهم، بعد أن عملت الشهوات، ورغبة الترقي، وأخذ الميزات للتقرب من السلطة لكسب رضائها طالما بيدها كل حقوقهم... فأخلّ ذلك بالعدالة، وأفقد الشعب الثقة بمؤسساتها.

ولعل أحد أهم أسباب ما تواجهه سوريا اليوم يعود لاهتزاز الثقة بركن العدالة الذي هو أساس الملك، وضمانة الاستقرار، والحامي للحقوق، والملزم بالواجبات. مما يستلزم إعادة توحيد هذه الجهات تحت مظلةٍ قضائيةٍ واحدة، تعمل لترسيخ استقلاله والتنسيق بين جهاته ورعايتها وتطويرها، ليكون القضاء ميزان العدل، ومظلة الحق التي تجمع الشعب في ظلها، مع إتباع جهات توثيق الحقوق لجهةٍ واحدةٍ تعمل في اطار القانون لا وفق أوامر السلطة، وتحت رقابة القضاء. إن أي عملٍ في مجال السلطة القضائية لا يلحظ هذه الحقائق، ويستمر بالعمل وفق تشكيلاتٍ سابقةٍ اتضح سوءُها، هو عملٌ يكرّس واقع الأنظمة الديكتاتورية ويتجاهل أحد أسباب وهن القضاء.