إيران تنشر التشيّع بين العلويين

الشيخ دريد قادرو

قبل ثمانية سنوات، في القرى الأبعد على جبال الساحل السوريّ، تغيّر لون بعض قباب المزارات من الأبيض إلى الأخضر مرّاتٍ عدّة، دون معرفة من قام بذلك. لم يكن الأمر مهمّاً لكثيرٍ من الشبان الذين اكتفوا بإعادة لونها إلى سابق عهده، أما «الختايرة» الأكثر ريبةً فأخذوا يتذكرون نشاط جمعية الإمام المرتضى، وتصاعدت شكوكهم مع ظهور رجال دينٍ يخطبون ويوزّعون كتيِّباتهم في مجالس العزاء.

لم تتوقف محاولات نشر التشيّع بين العلويين منذ ثمانينات القرن الماضي، ولكنها كانت تنشط وتهدأ تبعاً للظروف السياسيّة والأمنية. محاولاتٌ لم تنجح مع جمعية المرتضى (1983-1981) -بقيادة جميل الأسد- لعدّة أسباب؛ منها وقوفه إلى جانب رفعت في تطلعه لانتزاع السلطة من شقيقهما الأكبر حافظ، وحزم الأخير تجاه أي عبثٍ دينيٍّ من هذا النوع، إضافةً إلى طريقة تعامل دعاة الجمعية مع رجال الدين العلويين بمحاولة رشوتهم والاستهتار بالقيمة العاطفية والرمزية لأماكن خلواتهم. يقول المحامي عيسى إبراهيم (معارضٌ سوريٌّ مقيمٌ في الخارج، وهو حفيد الشيخ صالح العلي) لـ«عين المدينة» عن تلك المرحلة: «لعب النظام عبر جمعية المرتضى بتراث الطائفة الروحيّ عبر دسائس معرفيةٍ كثيرةٍ حين كان مصدر المال والسلطة يقتضيان ذلك، فتمّ إتلاف مزاراتٍ علويةٍ في الساحل». بعد رحيل حافظ الأسد استعادت حملات التشيّع نشاطها بشكلٍ أكبر من خلال السفارة الإيرانية وأذرعها، وحاولت استقطاب شخصياتٍ علوية، فنجحت في حالاتٍ وفشلت في أخرى.

في هذه الأيام يبدو العلويون هدفاً أسهل لمشروع ولاية الفقيه، فنشاط مجمّع الرسول الأعظم والثانويات الشرعية التابعة له في اللاذقية يبدأ من مركز المدينة ولا ينتهي بالقرداحة (بإدارة أوس مرهج) وبقرى سطامو وكرسانا في الشمال، إلى عين شقاق (بإدارة مجد الخيِّر، سليل العائلة المشيخية التقليدية) ورأس العين في الجنوب. يقول أيمن (من عين شقاق): «هالمدارس متقرِّي نهج الإمام الصادق، بلكي العلويين ينضبُّوا مع بعضن متل ما كانوا». كان أيمن سائقاً في إحدى المؤسّسات الحكومية، ومع اندلاع الثورة أصبح من محدثي النعمة بفضل ما سرقه من بيوت مدينة دوما المنتفضة ضد النظام، لينتهي به المطاف اليوم إلى العمل لحساب ثانوية عين شقاق الشرعية. لا يكترث أيمن -وسواه من مؤيّدي التشيّع- للفروق العقائدية والاجتماعية بين العلويين وأتباع الخمينيّ. ويقصد أيمن بـ«متل ما كانوا» السنوات التي سبقت وصول آل الأسد إلى السلطة، حين كانت للعلويين مرجعياتٌ روحيةٌ-اجتماعيةٌ استطاعت نبذ الخلافات بينها وجمع العلويين قدر الإمكان، وساعدتها في ذلك الجغرافيا ومظالم العهود الطويلة المشتركة.

ترسيخاً لسلطة المستبد عمل حافظ الأسد على إزاحة هذا النوع من المرجعيات، ونجح في ربط الطائفة بمرجعيته السياسية على مدى سنيّ حكمه، ولم يتعب بشار الأسد لتثبيت ذلك. يؤكد المحامي إبراهيم: «سحقَ نظام الأسدين بشكلٍ ممنهجٍ مشايخ الطائفة التقليديين، الذين شكلوا -بما لهم وما عليهم- ضمانةً لاستقرار الطائفة، لمصلحة مجموعةٍ من متقاعدي أجهزة الأمن الذين لا يملكون التحصيل المعرفيّ الواجب. ولم يُسمح بإنشاء أيّ مجلسٍ يدير شؤون الطائفة الروحية والاجتماعية». فراغ المرجعية العلوية هذا سهَّل على مجمّع الرسول الأعظم العمل باتجاهين؛ فهو يركز، من جهةٍ، على الأطفال الذين فقدوا آباءهم في طاحون الحرب وأصبحوا عبئاً على أمهاتهم في مصاريفهم الدراسية والمعيشية، فيغريهم مادياً وبفرص دراستهم لاحقاً في إيران أو في الجامعات السورية. ومن جهةٍ أخرى يعمل المجمّع على جذب رجال الدين المؤثرين في أوساطهم، ورجالٍ آخرين كان لهم حضورٌ في ما سبق، وأتاح لهم مشروع إيران استعادة ذلك الحضور الضائع.

عن تدخل إيران في سوريا يقول أيمن: «كتَّر خير إيران وحزب الله، لولاهن كنا تدبَّحنا كلنا». ينتصر خوف أيمن على عقله، ويُغفِل أن السياسة تغلب الدين. فما يظنُّه العلويون يُدعِّم وجودهم الآن سيبتلعهم في المستقبل، ومحاولة ضمّهم إلى مشروعٍ خارجيٍّ بدلاً من تعزيز الروح الوطنية لديهم ستكون أشدَّ خطراً عليهم، وقد تؤدي إلى تصدِّع المجتمع العلويّ بين مؤيدٍ لنشر التشيع ومعارضٍ له يرى خصوصيتيه الدينية ضمن إطار الهوية الوطنية.

يبيّن المحامي إبراهيم الطبيعة السياسية لنشاط إيران في الساحل السوريّ: «هذا المجمّع هو فرع مخابرات ملالي إيران السياسيّ-الدينيّ في اللاذقية. ونشاطه الثقافيّ ليست له علاقةٌ بالدين كعاملٍ وجدانيٍّ فرديّ. هناك فرقٌ جوهريٌّ بين تجديد الهوية الروحية عبر أبنائها وبين النشاط السياسيّ الاستخباريّ لنظام الملالي».

لا أحد يدري ما ينتظر العلويين في سوريا فهم بين نارين؛ نارٍ لم يبادروا إلى إطفائها حين ربطوا مصيرهم بمصير فردٍ يعتبرهم وباقي السوريين عبيداً في مزرعته، ونار مشروعٍ بدأت تتَّضح معالمه في محاولةِ تغيير هويتهم المذهبية والمجتمعية.