- Home
- مقالات
- رادار المدينة
آخر ساعات دوما عشيّة الخروج الكبير
الأيام الأخيرة في مدينة دوما كانت قاسية على الجميع. عاش المُحاصَرون في أقبية تحت الأرض، منقطعين عن العالم الخارجي، دون كهرباء أو شبكة إنترنت، مع انعدام أدنى مقومات الحياة. وشكّلت الأيام التي سبقت الخروج الكبير، من الغوطة، بالنسبة للكثيرين رُعباً لا يوصف، كونها كانت اللحظات الأكثر إيلاماً وتوحشّاً ودموية.
يسأل الصغير «أحمد» بصوت لا يخلو من البراءة «ماما نحنا بالجنة؟ مو أنت قلتي أنو الجنة مليانة بالأكلات الطيبة والألعاب. هي الجنة معناتا». الصغير الذي لم يتجاوز ا لـ 5 سنوات والمولود في مدينة دوما شرقي دمشق كان فرحاً لتخلّصه من معيشة قاسية، لم يعرف سواها منذ إطلالته على الدنيا. بعد دقائق أتى أحمد فرحاً مرة أخرى «أمي لقيت مكان لنحفر النفق»، «بالجنة ما في أنفاق يا أحمد»، أجابت الأم وقد احتارت كيف تُفهم طفلها أنه ليس في الجنة، بل في إدلب الخضراء.
تمرّ لحظات لا يُمكن للمرء تخيلها وهو يعاود استرجاع ذاكرته، الشعور بالعجز وبالضيق الشديد، انعدام الخصوصية داخل القبو أو النفق المظلم المحشور بعدد ضخم من العائلات، زعيق الأطفال والنساء عند سقوط الصواريخ الفراغية أو العنقودية بعد رحلة عناء رهيبة في متابعة عواء المقاتلات وهي تخترق جدار الصوت، إمضاء الوقت في قبو تحت الأرض، كل ذلك أدى لحدوث تبلّد في الذهن. ومع عويل الجرحى وهدير الطائرات والحوامات يفقدُ المرء أي قدرة على التركيز.
في الأيام الأخيرة التي سبقت قدوم الباصات، ونتيجة لمئات الغارات والقذائف اليومية، تحوّلت الغوطة إلى ما يُشبه كانتونات صغيرة، كل حي أو حتى مبنى تحوّل لبقعة مظلمة منقطعة عن العالم الخارجي، ومع تزايد حدة القصف بات التواصل بين هذه الأمكنة التي تُشبه الجحيم أقرب إلى المستحيل.
يُحاول «عبد الله»، وهو مصور صحفي شهد حصار المدينة وعايشه عن قرب، التحدث في بعض التفاصيل العالقة في ذاكرته: «القبو في كثير من الأحيان لم يكن مجهزا بأرضية إسمنتية، إضافة لانعدام دورات المياه أو الحمامات. وما كان يزيد من المعاناة اضطرار البعض إلى النزوح من قبو لآخر، حسب الخط الميداني للمعارك».
قبل ساعات من رحيله ودّع عبد الله مدينته مُلتقطاً بعض الصور الفوتوغرافية. تجوّل في سوق دوما المُدمّر معرّجاً على الجامع الكبير الذي لم يسلم من الاستهداف. توقّف الزمن للحظات بينما كان يحملق في منبر المسجد، تخيّل الخطيب وهو يُسلّم على المُصلّين في بداية خطبة الجمعة، اعتاد عبد الله الصلاة في هذا المسجد مع أصدقاء الدراسة القدامى، كان ذلك قبل الثورة، وها هو اليوم على وشك أن يُحرم حتى من زيارة المسجد الذي ضمّهم كل تلك الأيام.
أكثر ما يحزّ في قلبه غرفته الصغيرة على سطح بيت العائلة. صعد السطح محاولاً التقاط صور للغرفة لكنها كانت مدمرة بشكل تام. عاش في هذه الغرفة، التي لا تتجاوز مساحتها مترين ونصف المتر، أجمل أيام حياته. قلّب بعض مجلدات الكتب المختلطة بالركام، أمسك أحدها ماسحاً الغبار عن جلده البني، إنه كتاب «تاريخ دوما» لابن بدران العلامة الدوماني الشهير. فتح الصفحة الأولى «انتهيت من قراءته في 22 - تموز 2010».
قبل أسابيع من التهجير، وفي داخل أحد الأنفاق، جلست السيدة «نيفين الحوتري» (36 عاما) إلى جانب طفلتها الصغيرة «مايا» (5 سنوات) لتساعدها على النوم، وسط جو من الرعب الذي كانت تبثه هدير المقاتلات الحربية وأصوات لا تنتهي من الانفجارات.
امتلأ المكان بعشرات العائلات، بينما تحاول السيدة العناية بطفلتها «كنت أنام إلى جانب مايا واضعة يدي على أذنها حتى لا تسمع أصوات القصف في الخارج. وعدتُها بأصناف من الحلوى والبسكويت والشيبس. الرجال ينامون في مكان والنساء في مكان آخر. هنا يشتاق المرء للخصوصية وللنظافة. وتمضي الساعات كئيبة مملة ومرعبة في كثير من الأحيان».
تواصلُ الجيران مع بعضهم كان صعباً جداً، فشبكة الإنترنت مقطوعة، وحتى إن توفرت لم يعد بالإمكان شحن الهواتف النقالة نتيجة انقطاع التيار الكهربائي، الذي كان يحصل عليه السكان عن طريق مولدات كهربائية كبيرة منتشرة في جميع الأحياء.
اجترح بعض الأشخاص حلولاً لإيصال صوتهم رغم كل الظروف، نيفين على سبيل المثال، كانت تكتب تدوينة على الفيس بوك، ثم تصعد إلى الطوابق العلوية للمبنى لتتمكن من نشرها «في إحدى المرات، نزل صاروخ عنقودي أثناء تواجدي في الطوابق العُلوية.. لكني نجوت».
بعد تهجيرها إلى إدلب اشترت نيفين لطفلتها كمية كبيرة من المأكولات الفاخرة «كان ثمنها يعادل 4 بسكوتات سيئة النوعية التي كنا نشتريها في دوما».