«من لينين إلى ستالين»
كتاب يسرد وقائع حلم ملحمي انتهى كابوساً مقيماً

تقديم وترجمة: مأمون الحلبي

في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول المنصرم مرّت الذكرى المئوية الأولى للثورة الروسية. ثورة شعبية بكل المعايير، شارك بها ملايين الناس الساخطين على نظام حكم امتهن كرامة الروس وأفقرهم، وجعل روسيا بلداً ذليلاً ومُستضعفاً في أوروبا. خطّت الثورة الأحرف الأولى لحلم أجيال من الثوريين الروس، لكن قبل أن تنتهي الجملة الأولى، بدأ الحلم يتحول تدريجياً إلى كابوس، الْتهمَ في النهاية معظم من دشّنوه.

كان فيكتور سيرج أحد أولئك الحالمين الذين حوّلوا شتاء روسيا القاسي إلى ربيع واعد، لكن إلى حين. قبل أن نستعرض كتاب سيرج «من لينين إلى ستالين» المكتوب سنة 1937، والذي يسرد فيه سيرورة الانتقال السريع من الثورة ووهجها إلى الدولة البوليسية وانحطاطها، سنقّدم نبذة سريعة عن حياة الكاتب.

ولد فيكتور سيرج في بلجيكا عام 1890 لأبوين روسيين منفيين. ذهب إلى فرنسا وهو صغير السن، وهناك سجن خمس سنوات في الحبس الانفرادي لتعاطفه مع إحدى الجماعات الفوضوية. بعد الإفراج عنه ذهب إلى إسبانيا، وشارك هناك مع الحركة الفوضوية في ثورة 1917 الفاشلة. في عام 1919 ذهب إلى روسيا، وانضم للحزب البلشفي. شارك في الدفاع عن مدينة بيتروغراد والتصدي للجيش الأبيض، رأس الثورة المضادة. في عام 1933 ألقي القبض عليه بصفته معارضاً للنظام، وأُرسِل إلى منفى داخل البلاد. قبل أن يستجيب ستالين لحملة احتجاج عالمية طالبت بإطلاق سراحه، فيسافر إلى فرنسا عام 1936  قبل محاكمات التطهير التي جرت في موسكو بأمد قصير. بعد الاحتلال الألماني لفرنسا غادر إلى المكسيك، وهناك توفي عام 1947 بنوبة قلبية. عندما مات لم يكن يملك شيئاً، وجمع أصدقاؤه نفقات جنازته ودفنه.

يبدأ سيرج الكتاب بالحديث عن مقدمات ثورة أكتوبر، حيث الاضطراب وتشوش الرؤية وغياب القيادة الثورية. كان لينين هو المفتاح الذي عوّض عن هذه النقائص. وفيما يلي المقتطفات الأشد أهمية ودلالة من الكتاب:

يبدو لي أن المرحلة الأولى من الثورة الروسية قد هيمنت عليها الاستقامة المطلقة للينين ومجموعته. منطق صارم دفع آلاف البشر إلى العمل، لكنهم كانوا بحاجة لتصوّر واضح للأساليب والأهداف. في اللحظة الحاسمة لا تجد الجماهير دائماً رجالاً قادرين على التعبير بحزم عن مصالحها وطموحاتها وقوتها الكامنة. كومونة باريس، 1871، واصلت كفاحها في ظل قيادة مشوشة ومنقسمة وتفتقر للكفاءة. ولو أتيح للطبقة العاملة الألمانية عام 1932 ذكاء حاد لشخص مثل روزا لوكسمبورغ، وعاطفة ثورية لشخص مثل كارل ليبكنخت، هل كانت لتستسلم لموجة النازية الصاعدة دون مقاومة ؟

عندما يكون لدينا حزب ومثقف وإرادة، حينها يُصنع التاريخ. لكن إن لم يمتلك المجتمع عناصر التبلور هذه فلا شيء يحدث، وستنتهي النزعة الإصلاحية بالثورة إلى طريق مسدود، وستسيل الكثير من الدماء دون جدوى.

   كانت الثورة الروسية في بداياتها مجلجلة من حيث ضرورتها الداخلية، ومثيرة للشفقة من حيث عجزها الخارجي. ففي ذات اليوم الذي أطلق فيه عمال النسيج في بيتروغراد إضرابهم عن العمل، الذي أدّى بعد أقل من شهر إلى سقوط الحكم المطلق، نصحت اللجنة البلشفية لإحدى مناطق العاصمة بالتخلي عن الإضراب. وفي اللحظة التي كان فيها الجنود على وشك العصيان –ولقد كان هذا العصيان هو ما تسبب بسقوط الإمبراطورية– كان نفس أولئك الثوريين يفكرون بوجل إن لم يكن عليهم أن ينصحوا بالعودة إلى العمل. لم يدرك الثوريون من كل الأحزاب، الذين قضوا كل حياتهم وهم يستعدون للثورة، أن الثورة كانت قريبة ووشيكة، وأن النصر قد بدأ يلوح. في خِضمِّ الأحداث، تحركوا مع الحشود حسب مزاج اللحظة. فجأة، لم يكن ثمة وجود لإمبراطورية أو لوزارة أو لقيصر.

   كل عبقريته –لينين- تكمن فقط في مقدرته أن يقول ما يريد الناس قوله، لكن لا يعرفون كيف يقولونه، في مقدرته أن يقول ما لم ينجح أي سياسي أو ثوري في قوله. هذان الاثنان–لينين وتروتسكي- كانا رأسي الثورة. تركزت كل الشعبية عليهما، وتحملا كل الكراهية.

​كانت الاجتماعيات الأخيرة للجنة المركزية قبل طرد قادة المعارضة -في نهاية تشرين الأول-1927 عاصفة. لنأخذ بعض المقتطفات من المحاضر الرسمية للجلسات، وكان من الواضح أنه قد تم تخفيف الإهانات التي قيلت بحق المتحدثين المعارضين.  

تروتسكي: من خلال الجهاز الحالي والنظام الحالي فإن الطليعة العمالية تعاني من ضغط ... يزداد الصخب أكثر فأكثر. وبالكاد يمكن سماع المتكلم [البيروقراطيون المحدثون] هرج ومرج وصفير [والإداريون والمدراء ضيقو الأفق، والمُلّاك الجدد، ومُثقفو المدينة والريف من أصحاب الامتيازات. أصوات موجهة لتروتسكي: حفار قبر الثورة! يا للعار! ليسقط الوغد! المرتد!] أصوات مواء، وأصوات تنادي: أنزلوه عن المنصة.

هذه المشاهد في اللجنة المركزية كانت مضاعفة في المنظمات الأدنى، وحتى في الشارع. لقد هُزمنا وهزيمتنا لم تُعكّر صفو اللامبالاة العامة.

تروتسكي

من لينين إلى ستالين

كل شيء قد تغيّر. الأهداف: من الثورة الاجتماعية العالمية إلى الاشتراكية في بلد واحد. النظام السياسي: من الديمقراطية العمالية للمجالس السوفيتية إلى ديكتاتورية الأمانة العامة والمسؤولين والشرطة السرية. الأممية الثالثة: من تنظيم جبار للدعاية والكفاح إلى التذلل الانتهازي للجان المركزية المعيّنة بهدف الموافقة على كل شيء، دون خجل أو غثيان. القادة: عظماء أكتوبر الأشداء هم إما في المنفى أو في السجن. ظروف العمال: مساواتية المجتمع السوفيتي يتم تحويرها للسماح بتشكيل أقلية تحظى بالامتيازات مقارنة بالجماهير المحرومة من كل الحقوق. الأخلاق: من الاستقامة المتقشفة للبلشفية البطولية نتقدم بالتدريج نحو مراوغة وخداع لا يمكن وصفهما. كل شيء قد تغير، كل شيء يتغير، لكننا بحاجة لعقلانية الزمن قبل أن نستطيع فهم الوقائع بدقة. الإفراط بالتعلّق بنظام الحكم، الأوهام الكثيرة عن الناس، الإفراط في حب الأرض والبلد والموتى، الذكريات الكثيرة تغشي أبصارنا جميعاً تقريباً. هنا يُصبح من الواضح أن للمعايير الأخلاقية قيمة أكبر من الأحكام المرتكزة على الاعتبارات السياسية والاقتصادية. السياسة والاقتصاد بتعقيداتهما اللامتناهية يسمحا بخداع الإحصاءات والشعارات. حتى عندما تتوفر المعرفة الواسعة، غالباً ما تكون البصيرة الثاقبة إلى داخلهما مستحيلة، بينما الإذلال والظلم، والفِخاخ المنصوبة لأولئك الذين كانوا بالأمس يُعتبرون رفاقاً، والانحطاط الإنساني وتدخّل الشرطة في نقاشات الحزب؛ هذه الأمور تكشف الحقيقة. أولئك الذين يقولون «السياسة أولاً: فليرمنا في السجن طالما أنه يثابر على سياسة صحيحة» مخطئون جداً. فليس صحيحاً أن الغاية تبرر الوسيلة. العدالة لا يصنعها الظلم، والعالم والناس لا يُمكن أن يتم تحويلهم بواسطة السلاسل ومكبرات الصوت التي تصدح بالأكاذيب، ووكالات المثقفين المأجورين كي يحشوا رؤوس الناس بالأكاذيب. كل غاية تتطلب وسيلتها المطابقة، وأي غاية يمكن الفوز بها فقط بالوسيلة المناسبة. ومع أن الثورة الاشتراكية قد تكون، في الأوقات العصيبة، مضطرة لاستعمال السلاح القديم الذي يتركه المجتمع البرجوازي، إلا أنها بعد ذلك يجب أن تجد سلاحها الخاص. يمكن للثورة أن تتقدم فقط بتحسين الشروط المادية والأخلاقية للجماهير: مزيد من الرفاه الشخصي، مزيد من الحرية، أكاذيب أقل، مزيد من الكرامة، ومزيد من الاحترام للإنسانية. الاشتراكية التي تتقدم بخلاف ذلك تستسلم لنوع من الثورة المضادة الداخلية، وتفقد مصداقيتها، وتجازف بالانتحار.

الخارجون على القانون

لقد استقر النظام بكلّيته على القمع، منذ اليوم الذي بدأ فيه يتم انتقاء القادة بمساعدة الشرطة السرية. ثمة شيء لا يُذكر يمكن قوله بخصوص حرية الكلام والفكر. كل الاشتراكيين من كل تلوينات الرأي، دون أي استثناء، تم ترحيلهم أو إيداعهم السجن. كل المعارضين الشيوعيين والفوضويين والنقابيين. الفكر الرسمي لا يتحمل أدنى ظل أو شبهة انتقاد. بعد عام 1930 كان حتى المشتبهين يُضيّق عليهم ويُضطهدون. رجال مسنون تقاعدوا من كل الحياة السياسية، لكن من كانوا في وقت ما فوضويين أو اشتراكيين أو معارضين سياسيين، يختفون في إحدى الليالي، وبعد أشهر نسمع أنهم قد وصلوا إلى معسكر اعتقال اوستبيشورا، أو أنهم قد رُحِّلوا إلى المناطق المتجمدة. أولئك المشتبهون بالهرطقة السياسية كثيرون داخل الحزب. كلمة ليست في محلها، تحفظ بخصوص نقطة ما، لحظة تردد (قد تكون حصلت قبل سنوات، لكن مخبر ما يتذكرها الآن)، وحتى الصمت قد يكفي، لكي يختفي المشتبه به. السجون تغص بهم. بين 4000 إلى 5000 معارض اعتقلوا بين 1928 / 1930. بعد عام 1934، واغتيال كيروف من قبل شيوعي شاب، كان الشيوعيون والمشتبهون الآخرون يُعتقلون بعشرات، وربما مئات الآلاف. كان الاتحاد السوفيتي يمتلك أكبر معسكرات الاعتقال في العالم.

الإرهاب والتعافي الاقتصادي

اغتيل  كيروف، عضو في المكتب السياسي وممثل ستالين في مدينة لينيغراد، في ديسمبر 1934 من قبل شيوعي شاب يدعى نيكولايف. 14 من رفاق نيكولايف الشيوعيين الشباب أُعدِموا بعد محاكمة سرية. 116 شخصا لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بالجريمة، وكانوا قد اُعتقِلوا قبل الحادثة، تم إعدامهم. المثقفون «أصدقاء الاتحاد السوفيتي» وافقوا أو كانوا صامتين. جرت محاولة خرقاء لتوريط تروتسكي في هذا الفعل الإرهابي الفردي. يُدان كل من زينوفيف وكامنييف وباكاييف وفييدورف ويوفدوكيموف، ويُحكم عليهم بفترات سجن طويلة مع مصادرة ممتلكاتهم. أصحابهم السياسيون يرسلون إلى معسكرات الاعتقال بالآلاف. التروتسكيون الذين كانوا منفيين بعد إطلاق سراحهم من السجن أُعيد سجنهم من جديد. حملة التطهير التي طالت سكان لينيغراد (بين سجن وترحيل) اشتملت على 80 إلى 100 ألف ضحية. حدث هذا عام 1935، سنة التعافي الاقتصادي. لو أن البيروقراطية لم تكن واعية بافتقارها للشعبية، ولو لم يكن ضميرها مثقل أمام الشعب، لكانت متساهلة في سنة كهذه. لكن البيروقراطية تعيش تحت وطأة الخوف.

القائد المحبوب والذكي

انتهت المجاعة. تم تجنّب الحرب. تتم مكافأة السوفييت بصداقة فرنسا. ويُعلن ستالين أن أزمة الرأسمالية العالمية أصبحت أخف. يتكلم ستالين بشكل متكرر. يظهر أمام الحشود المتحمسة. يُعلن عن سعادة الشعب. يوزع الأوسمة وساعات اليد بكلتا يديه، وتُلتقط له الصور وهو يقبل الفتيات الصغيرات من كل الأعراق الآسيوية. أب للشعب. الشعراء والكُتّاب والخطباء وميكانيكيو الجرارات والرعاة التركمان وحراث الأرض من المنغول والطيارون الجورجيون والطلبة الأوزبك، كل هؤلاء نفذت النعوت التي يملكونها للقائد. أرامل الطيارين الموتى يشكرونه. لا شيء في الصحافة سوى المديح ل «القائد المحبوب» الذي يُمثّل «أحكم وأعظم رجل على مرّ العصور». إنه «ذكي ومحبوب كالطفل البكر ومُشعٌّ كالشمس». وأبداً لن تبلغ أنشودة المديح طبقة أعلى في التمجيد من اليوم الذي تلا قتل القائد لأقدم رفاقه في الكفاح، الرجال الذين عملوا مع لينين. الصحافة الشمولية تؤدي وظائفها إلى درجة الكمال. بجبينه المنخفض وشاربه الخشن وبدلته الخالية من الزينة ينظر ويتكلم مثل جندي عادي سيء المزاج.

مجزرة كاتين

جوزيف جوغا شفيلي، المولود في تبليسي عام 1879 والابن لصانع أحذية، حضر دروساً في معهد خرج منه الكثير من الثوريين. كان اشتراكياً وبلشفياً منذ بدايات الحزب، وانخرط في نشاط غير شرعي في القوقاز من 1898 حتى 1917، ورُحّل خمس مرات، وفرّ في أربع مرات. كلمة ستالين تعني «مصنوع من الفولاذ»، وهكذا هو ستالين.

لا شيء معروف عن الإعدامات في روسيا. لكن يبدو أن العاطفة هذه المرة اخترقت السر، لأن الصحف الكبرى خارج روسيا تداولت القصة. سُمح لكامنييف أن يتكلم مع عائلته. استقبل زوجته (أخت تروتسكي)، وابنة أخيه وابنته. وكانت عائلته مندهشة لرؤية قناع الموت على وجهه. بصوت منهك قال لهم كامنييف «على الأرجح سأذهب في رحلة طويلة. إن مُتُّ لا تُسيؤوا الظن بأولئك الذين حكموا عليّ. إنهم يعرفون ما يفعلون». تم إعدام كامنييف أولاً. لم يُقاوم ولم يُظهر أي شكوى. غادر زنزانته بصمت ونزل إلى قبو الإعدام كما لو أنه في حلم. بعد الطلقة الأولى، وجاءته من الخلف، أطلق صرخة تأوه وسقط. كان ما يزال حياً. الملازم فاسينوكوف، الذي كان موجوداً، صرخ بصوت هستيري «أنهوه»، وكال للرجل المحتضر ركلة بجزمته. طلقة ثانية في الرأس أنهت كامنييف. هكذا مات القائد الحقيقي، أول رئيس للجنة التنفيذية للسوفيتات عام 1917، وارث لينين الوحيد، وأحد أكثر الكتاب ثقافة في روسيا المعاصرة. سميرنوف، الذي رفض أن يوقع طلب عفو، كان الوحيد الذي حافظ على هدوءه وشجاعته حتى النهاية. عندما شاهد، لدى مغادرته زنزانته، المرافقة فهم الأمر. طلب قطعة من الورق وقال: «لقد استحقينا هذا لموقفنا اللامقبول في المحاكمة. لقد تصرفت بشكل مخجل في المحاكمة. أريد أن أموت كثوري». نزل سميرنوف إلى قبو الإعدام بعد كامنييف.

صورة تجمع لينين وتروتسكي