«بعدنا عم نضحك» .. شبان سوريون في غازي عنتاب على حافة التشرّد

يبدأ محمد وهو شابٌ سوري من محافظة دير الزور مقيم في مدينة غازي عنتاب التركية، نهاره بعد الواحدة ظهراً وقد سئم من الاستيقاظ باكراً دون جدوى، فقبل نحو سبعة أشهر كان يواظب على النهوض المبكّر والبحث عن عمل بشتى الطرق، عبر الإنترنيت أو حتى عبر نزوله إلى الأسواق وسؤاله أصحاب المحال والمعامل عن أيّ شواغر متوفرة، لكن انسداد الأبواب في وجهه جعله يُصاب بنوع من اليأس مصحوباً بالكسل والوهن الدائم.

يتابع محمد آخر التطورات في سوريا أثناء شربه القهوة، ومن ثمّ يمضي للقاء أصدقائه العاطلين أيضاً عن العمل فيجتمعون في منزل أحدهم، ليخففوا عن بعضهم عبأ الوحدة. ليس لديهم ما يفعلونه سوى الانتظار، وبالنسبة إليهم فإن الأخير أخفّ وطأة ضمن الجماعة.

تخرّج محمد ابن الثلاثين ربيعاً في محافظة دير الزور من قسم اللغة العربية، ويعيش في تركيا منذ خمسة أعوام، ومنذ وفوده إلى تركيا عمِل بمجالات متنوعة لا تتواءم مع تخصّصه، منها أعمال مهنية، وبعض المهمّات مع المنظمات المختصة بشؤون السوريين، لكنه منذ مطلع العام الحالي بات بلا عمل، ولم يترك باباً إلا وطرقه لكن الأبواب كلها موصدة، حسب وصفه، ويعيش حالياً من بعض مدخراته التي أوشكتْ على النفاذ، فيقضي بعضاً من ساعات يومه في تطوير عملية حسابية ترمي إلى تقسيم ما تبقى من نقوده لأطول فترة ممكنة، قبل الدخول في مرحلة التشرّد.

على غرار محمد يعيش شادي (28 عاماً) مع أصدقائه في منزل مشترك، ولم يعمل منذ نحو عام، يعيش من أجور يتقاضاها لقاء حضوره بعض الدورات المهنية والورش المُخصّصة للسوريين في غازي عنتاب، غير أنها ليست منتظمة وأجورها رمزية، لا تتجاوز الـ 500 ليرة تركية شهرياً، فيكتفي بدفع ما يتقاضاه لأصدقائه في السكن الذين يقدّرون وضعه تارة ويستاؤون أخرى.

تخرّج شادي من المعهد الصناعي في سوريا مع اندلاع الثورة، ويعيش في تركيا منذ أعوام، ولا يمانع أن يعمل أعمالاً مهنية وشاقة، ولكن حتى هذا النوع من الأشغال لم يعد متاحاً حسب وصفه، فهو لم يترك أيّ فرصة إلا وتقدم لها لكن المعامل التركية ترفض تشغيل السوريين لأسباب مرتبطة باستصدار أوراق قانونية تلزمهم بتكاليف الضمان الاجتماعي والصحة، وكذلك الأمر بالنسبة لأصحاب الأعمال السوريين الذين فُرض عليهم قوانين جديدة حدّت من وصولهم وصلاحياتهم، وصعّبت عليهم تشغيل سوريين مخالفين للشروط.

يقول شادي لعين المدينة: "أوضاع أصدقائي في السكن المشترك ليست جيدة أيضاً، ومجموع ما يتقاضونه بالكاد يكفي لسدّ إيجار المنزل والاحتياجات اليومية الأساسية، يكاد لا ينقضي علينا شهر دون أن يمرّ فيه نهارٌ نضطر فيه إلى جمع ما تراكم لدينا من قروش لشراء ربطة خبز، أو كيلو من البرغل.. أيّ طعام يسدّ رمق خمسة شبان، وهو موقف على الرغم من تعايشنا معه إلا أنه يترك داخلنا إحساساً بالعجز والألم، نفرج عن أنفسنا بعده بضحكات.. القهقهة طريقتنا للتحايل على الواقع والنسيان".

في حين يقول محمد: "قضيتُ أشهراً تحت القصف، وعايشت الحصار، كنت في الجيش الحرّ مقاتلاً على الجبهات. مررتُ بأوقات عصيبة وتعرّضت لأخطار جمّة، لكنني أشعر حالياً باليأس والإحباط أكثر من أي وقت مضى".

تتمتع غازي عنتاب بصناعة نسيج مزدهرة، وهي موطن الفستق، وسمعة طعامها جيدة، لدرجة أنَّ الناس يطيرون إليها من إسطنبول ليتناولوا هناك الغداء فقط، وتبعد 60 ميلاً (97 كلم) فحسب عن حلب، المدينة السورية التي دمَّرتها الحرب، بحسب صحيفة The Guardian البريطانية.

الصحيفة أضافت في تقرير مطوّل أعدته عن غازي عنتاب بعنوان "كيف نجحت مدينة تركية صغيرة في استيعاب نصف مليون مهاجر؟"، المرونة التي تتحلى بها هذه المدينة، والتي سمحت لها باستقبال عدد كبير من اللاجئين السوريين بالقياس إلى عدد سكانها الأصليين (نحو مليون ونصف المليون) دون أن يختلّ توازنها، وبالفعل فإن غازي عنتاب أبلت بلاء حسناً مع السوريين، فالمدينة المشهورة بحدائقها وغاباتها صارت بيتاً كبيراً للسوريين، فلا ينقضي شارع أو مقهى دون سماعكَ مفردات عربية يتحدثها ليس فقط السوريون، وإنما الأتراك الذين أبدوا تعايشاً مع السوريين.

لكن مشكلة ارتفاع البطالة وفقَ الشبان الذين استطلعت عين المدينة آراءهم تكمن في سببين اثنين: أولهما تراجع أنشطة ومشروعات بعض المنظمات الإغاثية والخيرية التي كانت تعمل من هذه المدينة فتشغّل أرقاماً لا بأس بها من الشباب السوري، والتشديدات القانونية الأخيرة -بدأت منذ نحو عامين- على السوريين، وعدم قدرتهم الالتحاق بأعمال مؤقتة أو غير قانونية.

بالنسبة إلى السبب الأول فإن تراجع عمل المنظمات ناتج عن انتقال مقرّات عدد منها إلى مدن أخرى أبرزها إسطنبول، فضلاً عن إغلاق عدد من المنظمات وتراجع أعمال التي بقيت قيد الخدمة بسبب تخفيض الدعم. لا توجد أرقام دقيقة لأعداد المنظمات التي أغلقت والأسباب الرئيسة لذلك، لكن وفقاً لتقاطعات ملاحظات الشباب المأخوذ رأيهم وبعض التقارير المحلية، فإن قسماً من عمل المنظمات الذي بدأ منذ العام 2012 في هذه المدينة لم يعد موجوداً، والأسباب تتراوح بين أمنية ومالية.

سببٌ آخر تحدث عنه شباب من غازي عنتاب لعين المدينة، يحول دون استفادة أكبر عدد أكبر من القاطنين في المدينة من الأعمال المتبقية لدى المنظمات، وهو أن إداراتها تتعامل بمنطق الواسطة والمحسوبيات، فتجد على سبيل المثال في منظمة واحدة يعمل ثلاثة أشخاص أو أكثر من نفس العائلة، ويتقاضون معاشات ضخمة، في حين ترفض إدارات هذه المنظمات توظيف السوريين بطرق موضوعية وشفافة، بل ولا تراعي أي حالات إنسانية من شأنها أن تنقذ عائلة بتوظيف أحد أفرادها، ويكون بهذه الصورة المعيل الوحيد للعائلة بأسرها. النسبة الأكبر من السوريين المتواجدين في غازي عنتاب هم من العائلات المحافظة، المرأة غالباً لا تعمل وينحصر الإنتاج بالرجال.

يبقى العمل في المعامل والمنشآت التركية والسورية محفوفاً بالمخاطر، بسبب التطورات الأخيرة التي شددت فيها الجهات التركية على ضرورة استيفاء تصريح العمل، وهو ليس بالأمر اليسير. محمد وشادي أكدوا أنهم لا يتعالون على أي عمل مهما كانت منزلته، ومهما بلغ مرتبه أيضاً، لكنهم لا يجدون.

يوجد في تركيا 3,6 مليون سوري، بينهم أكثر من مليوني سوري في سن العمل، حسب تقارير منظمات حقوقية ومراكز دراسات. أظهر تقرير لمعهد بروكنغز أن "ما يقارب نصف مليون سوري يعملون في شتى القطاعات الاقتصادية والزراعية، ولكن من حصلوا على إذن عمل 65 ألفاً منهم، ما يعود إلى عاملين: الأول أن السوريين يواجهون معوقات بيروقراطية للحصول على أذونات العمل التي تحتاج المال والوقت، فضلاً عن أن القوانين التركية تطالب بأن يُشغّل صاحب المعمل أو الشركة أو المؤسسة خمسة عمال أتراك مقابل كل عامل أجنبي، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في مجالات عديدة، وخصوصاً التي تعتمد على اللغة العربية أو على الزبائن العرب، مثل وسائل الإعلام الناطقة بالعربية، والأمر ينطبق بدرجة أقل على الورش الصغيرة والمطاعم والمقاهي وسوى ذلك. وثاني العاملين أن بعض أرباب العمل لا يرغبون في حصول عمالهم على أذون عمل، بالنظر إلى تبعاتٍ يستوجبها إذن العمل، من حيث الراتب الشهري للعامل والضمان الصحي وسواهما". وفقَ تحليل نشرته صحيفة العربي الجديد مطلع آب 2019.

بلا شركاء!

"عندما أرى رجلاً ومعه زوجته وأطفاله أشعر كم أنا تافه.. أنا فاشل ولا أستحق هذه الحياة، لو كنتُ أستحقها لكنت الآن أباً" بدأ معي محمد بهذه الكلمات عندما سألته عن عدم ارتباطه على الرغم من أن المدينة التي يتحدّر منها تشتهر نسبياً بالزواج المبكر للذكور والإناث على السواء. أضاف: "لقد قطعتُ الأمل من قدرتي على الارتباط، لكن عندما أرى طفلاً أحزن لأنني أحب الأطفال كثيراً"، لمست ذلك من تعامله مع ابنتي الوحيدة التي اصطحبتها في اللقاء. "صار الطفل بالنسبة لنا حلماً، أما معاشرة امرأة فهو من المنسيّات".

تعمدتُ عدم الخوضِ أكثر في حياته الخاصة، لكن من الواضح أنه يعاني من جفاف عاطفي ونفسي مزمن، فعيناه أثناء الحديث عن العائلة تمتلئ بالدموع، لكنه كان يحاول أن يلقي أيّ نكتة عابرة عندما يشعر أنني تأثّرت، ويتابع "يا بنت الحلال شبك بعدنا عم نضحك". أما شادي وهو يصغر محمد بعامين، فيشعر أن الارتباط أيضاً أمسى حلماً وضرباً من الخيال، في الأصل لا يفكر في الموضوع، فبحسب رؤيته الأولوية الآن لتأمين السكن والطعام، والابتعاد عن حافة التشرّد.

ينفق شادي ساعتين يومياً أثناء تسوّق الأطعمة للمنزل الذي يسكن فيه مع شبان آخرين، وأوكلت له هذه المهمة كونه لا يعمل ويعيش أياماً كثيرة على حساب شركائه، فيكون بذلك مُساعداً لهم، ولا يتوانى عن ارتياد أكثر من سوق في سبيل اختيار المنتجات الأرخص، ومن ثمّ يعود بأحماله ويبدأ بتجهيز الطعام في المنزل باغياً الكلفة الأقل.

لا حلول!

محمد وشادي الشابين الذين التقيتُ بهما، والتقيتُ بأصدقاء مشتركين لهما، جميعهم يطمحون للهجرة إلى أوروبا ومستعدون للذهاب بحراً والمخاطرة بحياتهم، لكن حتى هذا الخيار يبدو مستحيلاً بالنسبة إليهم لارتفاع تكلفة الرحلة، يقول شادي: "عندما كانت الرحلة تكلف ألف دولار منذ عامين لم أستطع الذهاب، فكيف الآن وقد زادت عن ثلاثة آلاف يورو! إنها أمنية بعيدة جداً".