- Home
- مقالات
- رادار المدينة
في بداية الثورة السورية .. التحول من رقيب مجند يخاف من الثورات إلى ثائر محاصر في سبينة بدمشق
خدمتي في سلك الشرطة كرقيب مجند جعلتني أطّلع على استنفار الشرطة والأجهزة الأمنية التام في ترقب حدوث أي طارئ وقتها، ما جعل الشهر الأخير من خدمتي الإلزامية يمضي بترقب وخوف من أن يتم الاحتفاظ بي على وقع ثورات الربيع العربي.
في آخر يوم من كانون الثاني عام 2011، استقللتُ سيارة مع أربعة من زملائي أبناء دورتي، قاصدين سرية حفظ النظام في منطقة غرز بدرعا المجاورة للسجن المركزي الذي تحول إلى ثكنة عسكرية جراء ما يحدث في المحيط العربي. جل حديثنا الذي يخفي تمني بقاء الأمور على ما هي عليه، كان تضرعاً بأن لا يصدر قرار بالاحتفاظ العسكري.
رشونا كل من ظهر بوجهنا من مساعدي الشرطة للحصول على براءة الذمة التي بموجبها يتم إعلان تسريحنا من الخدمة الإلزامية التي دامت سنة وتسعة أشهر، وعدت إلى عملي ودراستي الجامعية دون شبح "الجيش".
جو كلية الاقتصاد في دمشق حيث كنت أدرس، مشحون بنقاشات تتفاوت تبعاً للمناقشين وانتماءاتهم الطائفية والمناطقية؛ حديث مثل أن "الشعب يحب الرئيس" وأن "لا مكان للثورة في سوريا" كنت ألجأ إليه أحياناً، بينما تعود الأحاديث إلى الارتياح مع من أثق بهم عن مدى إمكانية التحاقنا بالثورات وجدواها واحتماليات النتائج، وبالطبع لم تغب "أحداث حماة" في الثمانينات عن النقاشات.
أما عملي في توزيع المواد الغذائية بين المحافظات، فشهدت خلاله عدة مظاهرات في عدة أماكن مختلفة. كانت الأولى في القصير بريف حمص، حيث سمعت للمرة الأولى على أرض الواقع "الشعب يريد إسقاط النظام" وليس عبر صفحات فيسبوك. قشعريرة سرت في كل بدني وكأن شيئاً ولد بداخلي، أو ربما قد حانت ولادة جديدة لي، لكن أخي منعني من الاقتراب من الهاتفين حتى للاستطلاع. لم تمضِ إلا دقائق قليلة واختفى كل شئ. لم يختلف الأمر كثيراً في حي الخالدية بحمص؛ مرة أخرى "الشعب يريد إسقاط النظام" دقائق ثم يختفي كل شئ من جديد.
بقائي طويلاً في طرقات السفر ربما أخرني عن الانخراط في المظاهرات المحتدمة في الحجر الأسود وحي العسالي جنوب دمشق، لكن نقاشي مع قريبي أبو حسين يجعلني أعتقد الآن أنني كنت متردداً أو خائفاً، فخلال تلك الفترة كان أبو حسين يخدم في القضاء العسكري برتبة مساعد أول، ومحاولة توقع نتائج ما سيجري يدفعني للنقاش معه، ومنه سمعت بنظرية "المؤامرة الكونية" و"تطويق المتآمرين" و"انتهاء القصة".
نقل ما يجري في المحافظات كشاهد عيان إلى الوسط العائلي وزملاء الجامعة كان هاجسي، خاصة أن سبينة حيث أعيش لم تشهد خروج مظاهرات حتى تشرين الأول 2011. قبلها كان يلجأ عدد كبير من أبناء سبينة إلى المناطق الأخرى للمشاركة في المظاهرات، وبدأ بعضهم يختفي بالاعتقال وكان أحدهم أخي.
بعد المظاهرة الأولى في سبينة تتالت المظاهرات المسائية، لكن الخوف من الاعتقال يجعل المشارك يخفي نيته بالمشاركة عن كل من حوله، فالتشبيح في سبينة كان في أوجه، واشتهر به عدة أشخاص من الحي كانوا في الأصل مجموعة من المجرمين الذين اعتادوا ارتياد السجون، ومنهم أحد اقربائي الذي أصبح من أساطين التشبيح، وذاع صيته في كل المناطق الساخنة.
عندما اتخذت قراري بالخروج في مظاهرتي الأولى رميت كل ذلك خلفي، ارتديت وشاحاً بعلم فلسطين وجدته في خزانتي لأخفي معالم وجهي، خبأت الوشاح حتى خرجت من حارتنا إلى مكان المظاهرة المسائية التي علمت مكانها من تهامس بعض الشباب، انتظرت على بعد شارعين مراقباً الترقب في عيون شبان عدة يقفون متفرقين، مع محاولة التمييز إن كانوا من المشاركين أم من الشبيحة المحليين. لم تمضِ دقائق حتى ارتفع هتاف "حرية حرية حرية"، وضعت وشاحي على وجهي واتجهت صوب الهاتفين، صارخاً "حرية حرية حرية" لأول مرة.
ازدادت الأعداد سريعاً. ميزتُ عدداً من الأشخاص بين المشاركين رغم محاولتهم إخفاء ملامحهم، وفي كل شارع نمر به تزداد الأعداد، وتطلق الزغاريد ويتناثر الرز فوق رؤوسنا من نساء على الشرفات أعطين زخماً للمظاهرة؛ شعرت أني غائب عن الواقع لا أعي سوى صوتي الذي انفصل عني على شكل شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، أو "يلعن روحك حافظ" الذي لا يزال أحد أجمل الهتافات لدي إلى الآن.
نصف ساعة ونحن نسير في شوارع سبينة، قاربت أعدادنا الألف وربما أكثر، حتى ظهرت عند "دوار أبو عارف" عدة سيارات "ستيشن" المرتبطة لدى الجميع بالأفرع الأمنية، عندها لم أجد نفسي إلا وأنا أركض بين الهاربين بل وسبقت معظمهم، غبت وغابوا بين الحارات، وعدت إلى المنزل لألتقي بأخي حسين في رأس الشارع. عندها فقط عرفت أنه كان يذهب للتظاهر دون إخبار أحد.
بعد تلك الليلة كان طريق سفري إلى درعا بمنتهى الصعوبة، فصوتي مبحوح ولا يكاد يخرج، وعند كل حاجز كان يلفت انتباه العناصر فيسألون عن السبب، وإجابتي الجاهزة "شربت ماء بارداً"، لكن ما يقنعهم أكثر بتركي.. ربما ادعائي أني أسكن في صحنايا التي لم تشارك في المظاهرات.
بعد تلك الليلة التي تكررت كثيراً، أصبح العمل لا يطاق مع كثرة الحواجز، وسيمفونية "رئيسنا منيح" و"التعليم مجاني" من بعض زملاء الجامعة صارت تشعرني بالغثيان. لذلك فما أن انتهى العام الدراسي 2012 وترفعي للسنة الرابعة، قررت ترك "سوريا الأسد" إلى "الأبد".
كانت سبينة قد أصبحت محاصرة كلياً، ويمنع دخول السيارات إليها، انتشرت قناصة النظام على مبنى المطاحن في مدخل سبينة الغربي بعد أن فقدوا السيطرة عليها، ومحاولة الدخول تمثل الانتحار.
حملت حقائبي من منزل أخي في صحنايا رغم معارضته الشديدة. وعلى حاجز المطاحن، حيث طوابير جلها نساء يحاولن الحصول على خبز، حاولت التسلل بين تلك الجموع دون لفت انتباه، إلى أن صرخ بي عسكري "هي هنت وين رايح". أظهرت له بطاقة الجامعة والمحاضرات التي حملتها تحسباً لهذا السؤال فقط، فقد كنت أعلم أن لا عودة للجامعة حتى يسقط النظام. فتشها طويلاً وفتش كل ملابسي و أخبرني أخيراً "انقلع".
تجاوزت منطقة المطاحن وحاولت الاختباء من مجال رؤية القناص الذي قتل العشرات من الأطفال والنساء لمجرد التسلية، كانت سبينة شبه مدمرة من شدة ما تتعرض له من القصف، خاصة المنطقة التي بدأت فيها المظاهرات، من دوار "أبو عارف" وإلى جهة الشرق وصولاً إلى منطقة "غزال".