- Home
- مقالات
- رادار المدينة
سيّد رماة التاو:الذي يعرفه حزب الله جيداً
نهضت في صباحٍ باكرٍ من صباحات الصيف الماضي. حملت جسدي المنهك ومشيت في أزقة القرية. كان المرض الصعب الذي داهمني فجأةً قد أوهن عزيمتي النفسية والجسدية. توقفت عند أحد المطاعم الشعبية وتناولت إفطاراً شهياً على الرصيف. أحسست بالنشوة وبإحساسٍ غامرٍ بالرضى والقناعة لأني لا أزال أستطيع رؤية الحقول الساحرة في الصباحات الجميلة، ولا أزال أستمتع بكل هذا البهاء. نهضت متثاقلاً بعد أن شربت بعض الماء البارد وكأساً من الشاي. في قريتنا لي صديقٌ عزيز، الدكتور حسن. كنت أمرّ به كل صباحٍ، تقريباً، في عيادته السنّية التي يبدأ العمل فيها باكراً جداً. كان يضطرّ أحياناً إلى العمل من السادسة صباحاً وحتى المساء بسبب الازدحام الشديد. كان يعالج عدداً كبيراً من الفقراء، وكل الثوار، مجاناً، مهما بلغت تكلفة العلاج. أدخل إلى عيادته، ألقي عليه تحية الصباح، نتبادل أحاديث السياسة والثورة وأخبار جبهات القتال، ثم أعود إلى المنزل.
في ذلك اليوم قال لي، بابتسامةٍ ومحبةٍ أخويةٍ عميقة: الحمد لله صحتك اليوم جيدة ومعنوياتك مرتفعة. أجبته: الحمد لله، نصبر على حكمه، لكن وضعي ليس جيداً. فأجابني بكلماتٍ مواسيةٍ بهدف تقوية معنوياتي وشدّ عزيمتي، ثم سألني: هل تعلم من زارني البارحة؟ أجبته ضاحكاً: أعرف طبعاً؛ حوالي سبعين شخصاً، فمن تقصد بالضبط؟ قال: صديقنا العقيد أحمد السعيد، أبو البراء. أخبرني أنه قد دمر دبابةً أخرى لعصابات الأسد في الأيام الأخيرة. كان فرحاً جداً وأخبرني عن أوضاع الجبهات وبشرني بأنها ممتازة، ولله الحمد. وقد أفسدت عليه فرحته عندما سألني عنك وعرف بمرضك. وهو يبلغك تحياته ويدعو لك بالشفاء، ووعدني بزيارتك قريباً.
ذهبت بذاكرتي إلى اليوم الذي تعرفت فيه إلى العقيد منذ حوالي العام. وقتها ذهبت مع الدكتور حسن إلى قريته ترمانين، وهناك قال لي: سأعرّفك إلى شخصٍ رائع، عقيدٍ منشقٍّ عن الجيش. إنه أحمد السعيد، أبو باسل. كان اسمه أبو باسل في تلك الأيام، وغيّره إلى أبو البراء في أيامه الأخيرة. عندما سألته مع من يعمل الآن قال لي إنه يعمل في قطع الحجارة. فوجئت، وعرفت أنه من النوع الذي لا يلهث وراء المال، ولم يبع نفسه للتافهين الذين استثمروا عملهم في بداية الثورة ليفسدوا في ما بعد. قال صديقي متابعاً: عمل مع أحد الفصائل في البداية، وعندما رأى بعض الانحرافات تركه وصار يعمل في قطع الحجارة كي يبقى محافظاً على مبادئه واستقامته. وصلنا إلى المنزل فرأينا طفلاً صغيراً يركض إلينا. سلمنا على الطفل وسألناه عن والده فأجاب أنه في الداخل، ثم ذهب فرحاً يبلغ أباه بقدومنا. لحظاتٌ قليلةٌ وإذ به يسرع إلينا وكلمات الترحيب تملأ المكان. كانت ابتسامته واسعةً والسرور بادياً على وجهه. جلسنا في شرفة المنزل وتبادلنا الأحاديث المعتادة عن الثورة والسياسة وهموم العيش. كان أبو البراء في حوالي الخامسة والأربعين، ذا بنيةٍ جسديةٍ قوية، ووجهٍ لا تغيب عنه الابتسامة حتى وهو صامت. حكى لنا أن أحد الأحزاب عرض عليه العمل معه، ولكن هذا الحزب -حسب قوله– لا يعمل على الجبهات، بل يريد جمع الضباط معه في العمل السياسيّ، مما يفقدهم قيمتهم العسكرية. رفض أبو البراء بشكلٍ قاطع. عرض عليه الدكتور حسن حينها الانضمام إلى جيش المجاهدين فوافق. بعد يومين علمت أن الأمر قد تمّ وأن أبو البراء صار يمارس هوايته باصطياد آليات النظام. وكلما زارنا كان يخبرنا عن تدميره دبابةً أو عربة Bmp أو رشاشاً ثقيلاً.
كنت أستعيد هذه الذكريات وأنا عائدٌ إلى المنزل. بعد مدّةٍ قصيرة، وفي مساءٍ صيفيٍّ منعش، جاء أبو البراء لزيارتي مع بعض الأصدقاء. عانقني، وظل برهةً ممسكاً بيدي وهو يقول كلماتٍ مواسية، معبراً عن دهشته لمرضي المفاجئ، وكنت أجامله بكلماتٍ مماثلة. كانت سهرةً لا تنسى. ودعني ووعدني بزيارةٍ قريبة.
بعد عدة أيامٍ وفى بوعده. جاء في سيارةٍ عسكريةٍ مموهةٍ ومطليةٍ بالطين الأحمر. كان برفقته ابنه الشاب الذي لم يتجاوز الثامنة عشرة. جلسنا نتبادل الأحاديث وطلب مني أن أذهب إلى تركيا للعلاج. بعد أن شرب قهوته استأذن بالانصراف لأن لديه موعداً، إذ سيأخذ عدداً من المجاهدين إلى الجبهة. كان ذلك اللقاء الأخير. بعد مدّةٍ قصيرةٍ سألت الدكتور حسن عن الأصدقاء فقال لي إن أبو البراء كان يؤم ثلاثة مجاهدين في الصلاة فسقطت قذيفةٌ بجانبهم وقتلت اثنين من زملائه، ونجا هو والرابع. وبعد عدة أيامٍ أرسل لي صورة العقيد وراء قاذف التاو، مع الكلمات التالية: «أبو البراء شهيداً بإذن الله».