حجّي مارع ... الثائر السلميّ الذي يحمل السلاح

دأب عبد القادر الصالح على التبرّؤ من مزاياه. فحين سئل في إحدى المقابلات عن سرّ حبّ الناس له، أرجع الأمر ببساطةٍ إلى «دعاء الوالدة»، وحين كان يسأل عن سبب تقدّمه الصفوف، وتسنّمه سدّة القيادة العسكرية، كان يصرّ على أنه مدنيٌّ يجهل استخدام السلاح بالأصل، وأنه سيعود إلى حياته المعتادة بعد انتهاء الثورة، وأن سمعة المقاتلين العالية تأتي من اجتماع جهودهم معاً، حتى لو برز هو، كواحدٍ منهم، بقدر الله، أو بما يشبه الصدفة.

يغفل الكثيرون عن مرحلةٍ هامّةٍ من حياة الشهيد اللامع، الذي اشتهر بلقب حجّي مارع، نسبةً إلى مدينته الصغيرة قرب حلب. إذ تحفل التعريفات الكثيرة التي ملأت صفحات الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعيّ ـ مقرونةً بالفجيعة باستشهاد الرجل، الذي يستحقّ هذا وأكثر ـ بالمعلومات المكرّرة عنه؛ أبٌ لخمسة أطفال، عمل في تجارة الحبوب والمواد الغذائيّة قبل الثورة، التي كان من أوائل متظاهريها في بلده، قبل أن يصبح من أوائل من حملوا السلاح لحماية هؤلاء المتظاهرين. ليلمع نجمه بعد ذلك بسرعةٍ في صفوف قوّات الثورة المقاتلة، بتأثيرٍ من شجاعته التي اتفق عليها من عايشه، ومن الكاريزما الطاغية التي أجمع عليها من عرفه ومن رآه عبر مقاطع الفيديو المواكبة لسير العمليات العسكرية، أو عبر المقابلات التلفزيونيّة العديدة. ليصبح القائد العسكريّ للواء التوحيد، العامل في حلب وريفها أساساً، وأحد أبرز ألوية الجيش الحرّ على مستوى البلاد.
ونزعم أن هذه المرحلة أساسيّةٌ في تكوين حجّي مارع، بالشخصيّة المحبّبة التي عرفناها، إلى الدرجة التي جعلت الكلّ يشارك صادقاً في رثائه، من أقصى ليبراليي الثورة إلى أشدّ فصائلها تديّناً أو أصولية. حتى رفّعه جمهوره الباكي، إثر استشهاده منذ أسبوعين، عن عمرٍ يناهز الرابعة والثلاثين، إلى رتبة «حجّي سورية».
وهذه المرحلة هي سنوات شباب الشهيد في جماعة التبليغ، المعروفة شعبياً باسم أهل الدعوة. وهي مدرسة إسلامية دعوية أسّست في الهند، قبل أقل من قرن، تحت تأثير خطر فقدان الهوية الذي واجه المسلمين هناك، وبالتجاور مع التقاليد الهنديّة العريقة في السلميّة والتعدّد. فاعتمــــدت إعادة المسلمين إلى ممارســــــة العبــــادات الأصليّة والالتزام بالأخلاق العامة هدفاً، بطريقةٍ شديدة اللين والرفق، ووفق أسلوب الخروج إلى جولاتٍ في المدن والقرى، يقوم بها أعضاءٌ مختلفون كلّ مرّة، يتحمّل كلٌّ منهم نفـــــــقات سفـــره الشخصيّة المتقشّفة، إذ حرصت الجماعة أن لا يحلّ دعاتها ضيوفاً عند أحد، بعد أن ربّت فيهم قيم الإخلاص والزهد في ما في أيدي الناس، ودعوتهم بأسلوب المحبّ الحاني، وعدم التدخّل في خلافاتهم الشخصية أو الاجتماعيّة أو المذهبيّة، وحتى السياسيّة. وقد أكسب هذا الخروج أبناء الجماعة القدرة على التعاطي مع نماذج مختلفة من البشر، وتقبّل تنوّعهم، والسعي لهدايتهم باتجاه المعاني العامة للدين، من الإيمان والصدق والاستقامة، دون بحثٍ عن مكسبٍ شخصيٍّ أو زعامةٍ عليهم. فقد يخرج الداعي إلى جولةٍ في دولةٍ لا يعرف فيه أحداً ولا يعرفه فيه أحد، ثم يعود إلى بلاده دون أن يحمل من هذا الرحلة إلا ذكرى الأيام التي تنقّل فيها بين المساجد من هذه المدينة إلى تلك القرية، والليالي التي يحرص أبناء الجماعة على قضائها بالدعاء وبصلاة قيام الليل، في تجربةٍ روحيّةٍ من الصعب أن تُمحى. أما حين احتاجت هذه المدرسة الكبرى إلى دليلٍ نظريّ يناسب وضوح دعوتها وبساطة مبادئها، فقد ألّف أميرها الثاني، محمد يوسف الكاندهلوي، الكتاب الذي أصبح شهيراً بعنوان «حياة الصحابة»، وقد اقتصر فيه على إيراد نماذج من حياة الرعيل الإسلاميّ الأول، في مواقف مختلفة، لتكون لأبناء الجماعة ـ ولسواهم ـ نبراساً يسيرون وفق هديه ويترسّمون خُطاه.
هذه هي خلاصــة حجّي مارع التي أسرت الكثيرين؛ الإخلاص والتسليم والزهد والرفق والتواضع والبساطة، وهذا هو مضمون ابتسامته العريضة الدائمة. وحين نبحث عن الدروس التي تركها لنا أبو محمود فإنها تكمن هنا بالضبط؛ في التفوّق الأخلاقي الحقيقيّ والعميق للثورة على نظام التشبيح وتجويع العائلات وقتل الأطفال بالكيماوي وبغيره.