وحي الشيطان
ما قاله الإصدار وما لم يقله

توقف الكثيرون عند بشاعة إعدام الصحفيين في الإصدار الذي أنتجه المكتب الإعلاميّ لـ«ولاية الخير» (دير الزور) تحت اسم «وحي الشيطان»، لكن أحدا لم يقف على الواقع الذي غيّبه الإصدار عن عمد. كما تأمل بعض الإعلاميين رسائل التنظيم في الإصدار باعتبارها رسائل طارئةً لجسمٍ طارئ، لكن أحداً -سوى القليل- لم يذهب أبعد من ذلك.

بين الخير والشرّ
منذ بدأ تنظيم الدولة بالتمدد من سنتين خلتا وهو يحاول -بدرجاتٍ متفاوتة- أن يغيّب الواقع المعاش في الأراضي التي يسيطر عليها، بالتوازي مع تصدير فكرة الصراع بين الخير والشرّ وقد بدأ الإصدار بها قبل أن يبدأ، إذ إن اسم وحي الشيطان يدل على أن ما سيحمله من أفعال التنظيم هو من وحي الرحمن. على أن صورة الصراع هذه بين النحن والهم، التي يصوّرها ويصدّرها تنظيم الدولة، تحرص على أن تخفي الصور التي بينهما. ومع بعد الواقع المتزايد عن تلك الصورة لم يعد التنظيم في حاجةٍ إلى هذا التصوير والتصدير فقط، بل أصبح في حاجةٍ إلى فرضهما على الواقع الذي ما برح يبتعد في ظلّ اغتصاب السلطة وضحالة الممسكين بها وفسادهم وسوء الإدارة ومصادرة الممتلكات والقسوة المفرطة وهروب الأهالي إلى خارج الأراضي التي يسيطر عليها وإلى خارج التاريخ الذي يحاول رسمه واحتلاله.

وقد رصدت مقالةٌ بعنوان «تنظيم الدولة والإعلام: واقع العمل الصحفي في ظل داعش»*، نشرتها مجلة «عين المدينة» في أيار 2015، العديد من الأمور التي تخصّ الإعلام في ظل تنظيم الدولة في مدينة دير الزور، والحالة المعقدة التي كان يعيشها الإعلاميون في ذلك الوقت. وقد لمّحت المادة إلى أن الإعلاميين يجمعهم بالتنظيم هدف التخلص من النظام، أو الدفاع عن النفس في الحد الأدنى. واستنتجت أن قادة التنظيم أرادوا كسب الإعلاميين إلى جانبه بعد تشكيل التحالف الدوليّ. ونوّهت إلى خوف الأمراء المحليين من الإعلام وما يحمله من تهديدٍ لمراكزهم -إن لم يكن لحيواتهم- في ظلّ الحساب الصارم الذي يخضعون له من قياداتهم. وذكرت إحدى تناقضات التنظيم في منع الإعلاميين من التعاون مع الجزيرة والعربية وأورينت (الموجهة لقتال الدولة؛ بحسب ضوابط العمل الصحافي التي وضعها التنظيم) رغم أن مكاتبه الدعوية ظلت -لفترةٍ طويلة- تبث لقاء الصحافي الألماني (يورغن تودنهوفر) على قناة الجزيرة في الشوارع والأسواق. وأشارت المادة إلى إعلاميين مستقلين كانوا يشاهَدون إلى جانب إعلاميي التنظيم في مواقع القصف وإقامة الحدود، لتقف المادة عند هذا الحدّ.

كان هؤلاء الإعلاميون يعملون في صفحةٍ على الفيسبوك تسمى (مركز دير الزور الإخباري dz.n.c) كانت، من جهةٍ، على اتصالٍ بأكثر إعلاميي وناشطي المحافظة داخل الحدود وخارجها، ومن جهةٍ أخرى على اتصالٍ بإعلاميي التنظيم وعلى رأسهم أبو أنس المصري أمير المكتب الإعلاميّ في «ولاية الخير»، والذي لم يعترض كثيراً على اسم دير الزور الذي تحمله الصفحة. ورغم أنه كان يطلب في بعض الأحيان إطلاعه على المقاطع والصور التي تنشرها الصفحة أو إعلاميوها في أكثر من مكان، لكنه كان يترك الأمر لتقدير هؤلاء الإعلاميين. وكان مفهوماً أنه يوافقهم في ما يخصّ بعض الجهات (أيّ جهةٍ إعلاميةٍ عدا الجزيرة والعربية وأورينت)، ومصرّحاً بذلك في ما يخصّ جهاتٍ أخرى يعملون لصالحها خارج صفحة مركز دير الزور (وكالة سمارت التي كان يشاهد معداتها في المركز).

وفي سياق تحميل التنظيم هزائمه للأهالي تارةً وللإعلاميين تارة، بدأ أمنيوه في المدينة بجمع المعلومات عن الإعلاميين عن طريق جواسيسه (يسميهم الرصّاد أو المؤمنين)، وراحوا يسألون معارفهم عن السبب الذي يدفع الإعلاميين إلى ترك المدينة والتوجه إلى تركيا (في محاولةٍ استباقيةٍ -على ما يبدو- لمعرفة أمر رحيلهم إن كانوا قد أزمعوا عليه). وكانت مشاهد من الدمار الذي خلفه قصف النظام حيّ خسارات في المدينة سبباً معلناً للقبض على الإعلاميين، رغم أن هذا الأمر -وهو تصوير آثار القصف- هو ما استمرّوا في فعله لأكثر من سنةٍ بعد سيطرة التنظيم، وبموافقة أبو أنس المصري. ولكن بعد أن ظهرت صور دمار حيّ خسارات على أكثر من جهةٍ إعلاميةٍ اعتقل الأمنيون الشابين مصطفى حاسة وسامي رباح في بداية الشهر العاشر من السنة الماضية.

لا يعرف المتابع البعيد الواقع الذي حاول هؤلاء الإعلاميون نقله، كما لم يخبره الإصدار بحيثيات الوثيقة التي منحهم إياها التنظيم للعمل قبل أن يغدر بهم. فمتابع هذه الإصدارات متحمسٌ للتنظيم في الغالب، يبحث فيه عن معاني «البطولة» التي زرعتها في خياله اقتباساتٌ تاريخيةٌ بسيطةٌ حلت فيها اليوم صور الإصدارات محل الكلمات، وصارت صورة قطع الرأس بديلاً عن جملة حز رأسه التي كانت تغنيه عن الكثير من التفاصيل. وكما يداعب الكلام الشاعريّ خيال وأحاسيس العاطفيين، يداعب هذا الكلام (الصور) خيال الباحثين عن «البطولة وإحياء الأمجاد».

يدرك قادة التنظيم أنهم يستثمرون في أرضٍ هشةٍ انتشرت فيها -قبل ظهوره بقليل- فكرةٌ معينةٌ عن الإسلام قدم التنظيم نفسه فيها على أنه الحالة القصوى والخير المطلق؛ ولذلك يتجنب إعلامه اليوم نشر أخبار خسائره كما تجنب -في أوقاتٍ سابقة- ذكر أيّ شيءٍ عن اعتماده على عمل منظماتٍ إنسانيةٍ أميركيةٍ في بعض المناطق التي يسيطر عليها، أو سماحه بإدخال وعبور بضائع تخصّ تجاراً على علاقةٍ بالنظام عبر أراضيه، أو عقده صفقات تبادل خدماتٍ مع النظام في الغاز والنفط والكهرباء وغيرها.

الجهاز الأمنيّ المحترف المؤيد من الله
لم تحُل العلاقة التي كانت تجمع إعلاميي التنظيم في المدينة بإعلاميي مركز دير الزور الإخباريّ، واطلاعهم على عمله، دون بحث الأمنيين عن تهمةٍ مناسبةٍ للشابين المعتقلين مصطفى حاسة وسامي رباح. لكنهم، حين داهموا المركز بعد ثلاثة أيامٍ من الاعتقال ووجدوه فارغاً، وبقية طاقمه (سعد السعد وياسين العبد الله) غير موجود؛ عثروا على تهمةٍ يتتبعونها. وفي الحقيقة كان هروب الطاقم سببه الخوف من بطش الأمنيين دون معرفة القضية التي يحققون فيها، على أن الأمنيين ذاتهم لا يعرفون عما يبحثون تماماً لكنهم، عند هذا الحد، صار لديهم ما يبحثون عنه (تجهيزات المركز التي لم يجدوها عند مداهمة البيت)، إلى جانب (ما يخفيه الإعلاميون ودفعهم إلى الهروب). الأمر الذي أوصل الأمنيين إلى الجنون فراحوا يضربون مصطفى وسامي للحصول على أسماء أصدقاء أفراد الطاقم، والتوجه لاعتقال هؤلاء الأصدقاء فوراً، ثم ضربهم للوصول إلى أصدقاءٍ آخرين واعتقالهم. فراحت دائرة المعتقلين تكبر لتشمل في يومين أكثر من عشرين شخصاً، ووصل الأمر إلى اصطحاب حاسة إلى الرقة للوصول إلى أهالي الهاربين، وهناك اعتقلوا شقيق سعد ووالده (مات تحت وطأة التعذيب) وياسين الذي فضّل البقاء في الرقة لاعتقاده أنه لم يخرج عن ضوابط العمل التي اتفق عليها مع التنظيم.

لم يكن ما جرى مع المعتقلين -وخاصةً الإعلاميين- في أحد سراديب الأمنيين في الشهر العاشر تحقيقاً، بل كان أحد طقوس الشبح إلى الخلف والضرب المبرح لكلّ من ذكر اسمه في السرداب المقطع بجدرانٍ حديثة البناء والمجهزة زنازينه بكاميرات المرقبة. كان الجلادون/ المحققون يسلمون المتهمين أوراقاً ويطلبون منهم ملأها بأي شيءٍ يعرفونه. وقاد عمليات البحث والتحقيق والتعذيب أبو محمود الزر وأبو المثنى و«الجهاز الأمني» الذي لا يتجاوز عناصره العشرة بكثير، وأبو الوليد في العلاقات العامة وأبو أنس الأمير الإعلاميّ، بالاشتراك مع العديد من الإعلاميين، الأمر الذي يؤكده الإصدار حين يقول بلسان الإعلاميين «لن تؤتى الدولة من قبلنا».

استسلم حاسة ورباح للموت المحقق منذ اللحظة الأولى. وكانت خطتهما تجنب أكبر قدرِ من الشبح والضرب، فراحا يكتبان في الأوراق كلّ ما يخطر على باليهما من أسماء منظماتٍ وناشطين وإعلاميين، ورغم ذلك لم يشفع هذا لهما. فعندما اصطحب الأمنيون/ الإعلاميون مصطفى حاسة إلى الرقة كان القيح والصديد ينزّ من كل مكانٍ في جسده إلى درجة أن الأمنيين هناك عطفوا عليه ونقلوه إلى المشفى لتلقي العلاج. أما خطة الجلادين، والتي تثبت عدم معرفتهم عن ماذا يبحثون، فكانت ضرب المعتقل بالتوازي مع ترديد جملة «شتعرف؟» أو «أنت راح تحكي كلشي»، حتى يعترف بأقصى ما يمكن توقعه لتجنب ما لا يمكن تخيله من الآلام.

أصبحت المعدّات التي كان يحويها المركز هاجس الأمنيين. وتحت وطأة التعذيب توصلوا إليها، وقد كانت برسم الأمانة لدى أحد الأشخاص. احتفل الأمنيون الإعلاميون بها في وقتٍ كانت فيه دائرة الاعتقال تتسع وتكسير الأعضاء يزداد والتبول اللاإرادي ينتشر بين المعتقلين الذين صاروا يبحثون باعترافاتهم عن أيّ خلاصٍ حتى لو كان الموت، حتى أن ياسين العبد الله حاول إنهاء حياته بشرب قنينة كلور وجدها في طريقه إلى الزنزانة. وهنا أخذ الجنون الذي بلغ ذروته ينحدر. ومع قدوم (شرعي/ قاضي) كويتي من خارج «الولاية» بدأت تصدر أحكام الإعدام بعد استجوابٍ سريعٍ يُسأل فيه المعتقل: «عطيني العالم اللي تتواصل معاها»، ويصاحبه الضرب أحياناً. وصار الأمنيون يستعملون بعض المحكومين لإقناع البقية بالاعتراف بشيءٍ لا يعرفون ماهيته، وصار يُسمح للمحكومين بالجلوس إلى موائد الأمنيين والسهر معهم، بينما صار الأخيرون يلقنون الذين سيفرج عنهم دروساً في كيفية التعامل المطلوبة، وحضّهم على ترك النخوة التي بسببها أجهدوا الأمنيين في البحث عن المعدات، وعرضوا على بعضهم مكافآتٍ مالية، وصاروا يبدأون الحديث معهم بكلمة «يا ابني»، ويطلبون منهم مسامحتهم.

ليس الجهاز الأمنيّ للتنظيم (المخابرات) محاولاتٍ هزيلةً لاستنساخ مخابرات الأنظمة الدكتاتورية في المنطقة فقط، ولا محاولة استكمال رسم صورةٍ لدولةٍ متخيلةٍ أخذت شكلها وطابعها من دول المنطقة التي عاش قادة التنظيم في كنفها؛ بل هي جهازٌ وهميٌّ يملأه عند الضرورة أشخاصٌ من شتى «الأجهزة»، يتعاملون معه -على ما يبدو- بحسب درجة خوفهم أو إخلاصهم للقيادة، أو بقدر الخدمات المتبادلة التي يقدمونها لبعضهم. وهم يعتمدون في بحثهم وتتبعهم مزيجاً من صورة الأب الذي يقسو على أبنائه والشخصية المخابراتية التي تكتشف المؤامرات. وهي صورٌ تعشعش فيهم أعمق بكثيرٍ من أيّ رمزٍ دينيٍّ يمكن أن يطمحوا إليه أو يمكن أن يتخيله متابعٌ عن بعد.

قوة إعلام دولة الإسلام
في إحدى جلسات التحقيق والشبح داخل السرداب انتفض الجلادون لرؤية صور الركام والقمامة في ذاكرة إحدى الكاميرات فقال أحدهم: «يعني المدينة وسخة ومحد ينظف؟ إحنا نخلي الناس تعاني!». ليس من المعروف من هم «إحنا»، لكنها إذا كانت تخصّ التنظيم في العموم فقد قدّم من خلال الإصدار دعوةً للاحتذاء بمصداقية إعلامييه (تصوير المفخخات والاشتباكات)، وسماع منطق «الدولة» أولاً قبل اتخاذ موقف العداء منها. وهو ما عبّر عنه الإصدار بربط قصة أحد الصحابة بقصة سامي رباح الذي صوّره الإصدار كشخصٍ لم يكن يعرف شيئاً عن أفكار «الدولة الإسلامية»، ثم تعلم الكثير عنها في السجن، ليقتل بعدها! أما إذا كانت «إحنا» تخصّ الحكام المحليين -وهو الأرجح- فذلك ما يؤكد سعيهم إلى إيجاد عملٍ ينفي عنهم الشبهات ويبعد عنهم شبح التقريع والمحاسبة التي تلاحقهم.

يقول المعلق في آخر الإصدار عن «الإعلاميين الموحدين» كما يصفهم، ويقصد بذلك نفسه والعاملين معه: «كلما زاد تربص الكفار بإعلام دولتنا زاد يقيننا أننا على ثغرٍ عظيمٍ يود الذين كفروا أن نغفل عنه أو نتركه. فوالله لم ولن ولا نتركه، ولن تؤتى دولة الإسلام من قبلنا، في مقابل هؤلاء الإعلاميين المرتدين الذين رضوا أن يكونوا عيوناً للصليبيين». في محاولةٍ لإيهام المتابع أن هؤلاء الإعلاميين كانوا يتعاونون مع التحالف الدوليّ -الأمر الذي يعتقد بصحته الكثيرون في حقّ أي إعلاميّ- رغم أن الإعلاميين المقصودين بالاتهام كانوا يعملون في مدينة دير الزور التي تقع خارج بنك أهداف التحالف.

لكن الإصدار -على ما يبدو- لا يستهدف المتابع البعيد فقط، بل أكثر من ذلك قادة التنظيم أنفسهم. إذ يعتمد قادة التنظيم والقادة المحليون على التقارير الدورية التي يعدّونها حول جميع النواحي العامة وبيان أسباب الأوضاع الطارئة، وقد درجت عادتهم على إلقاء اللوم على قادةٍ منافسين في البقعة الجغرافية ذاتها التي يديرونها، وتبرير مواقفهم أمام قياداتهم ومحاولة التهرب من المسؤولية. وفي ظل هذه المعطيات، بالإضافة إلى ما ورد في الإصدار أعلاه، فهناك احتمالٌ يفرض نفسه لفهم ما حدث من انقلابٍ في مواقف الإعلاميين والأمنيين في ما يخصّ عمل الإعلاميين في مدينة دير الزور خاصةً، والتنكيل بهم بهذه الصورة البشعة. وهذا الافتراض هو أن هناك قادةً ميدانيين بدأوا برفع تقارير يحمّلون فيها الإعلاميين مسؤولية الخسائر العسكرية في المدينة، بوصفهم متعاملين مع جيش النظام يحددون له المواقع المهمة. وجاء الإصدار كعربون ولاءٍ وإثبات براءة الساحة وتبييض صفحةٍ أمام القيادة، الأمر الذي يفسر حماس إعلاميي التنظيم واشتراكهم في اعتقال زملائهم الإعلاميين وقتلهم.

ما زالت أرتال التنظيم تُقصف، وأهم قياداته تُقتل، وأكثر اجتماعاته سرية تُستهدف؛ ما يبيّن أن الاختراق داخليّ. كما أن الاخبار والصور ما زالت تخرج من دير الزور وغيرها، ما يوضح أن ما فعله التنظيم لا يعدو قتل الإعلاميين الذين يعملون بالعلن وبموافقته المسبقة. بينما يذهب إعلامه إلى مزيدٍ من التخبط والخيال، حتى تبدو الدولة التي يعرضها وقادتها الذين يقدّسهم بلا أخطاء.

* http: //www.3ayn-almadina.com/?p=5942

 اعتمدت هذه المادة على العديد من شهادات المعتقلين في الحادثة الذين أفرج عنهم في ما بعد، بالإضافة إلى إفادات مقرّبين من قادة التنظيم في المدينة، وتجارب مراسلي «عين المدينة» وعلاقتهم المباشرة بشخصيات الإصدار.