هل تسفر المبادرات والمراجعات الراهنة عن أملٍ للسوريين؟

الأتارب - سيريا غراف

شكلّ ما حدث مؤخراً في مدينة حلب، بسيطرة جيش النظام والميليشيات الشيعيّة المؤسَّسة والمدعومة إيرانياً، مع الغطاء الجويّ الروسيّ، في آخر أيام العام 2016، لحظة مراجعةٍ للجميع، عسكريين وسياسيين، لتقييم المواقف وطرح تصوّراتٍ صارت معروفةً باسم مبادرات، هي حتى تاريخه ثلاثٌ أو أربع، عدا عن الاتفاق الروسيّ التركيّ، الذي أشرك عدداً من الفصائل العسكرية، كمقدمةٍ لاختيار المجموعة السياسية التي تتوافق مع بنوده المحورية، وهي الحرب على الفصائل المصنفة إرهابية، والتشارك مع النظام في صيغة حكمٍ جديدة.

الأمر في غاية الضرورة للجميع، ويتركز حول أسئلةٍ محوريّة: أيّ سورية نريد؟ وما الوسائل اللازمة للوصول إلى ذلك؟ والأكثر أهميةً هو ما الذي نملكه من هذه الوسائل؟

باستعراضٍ بسيطٍ للوقائع التي انتهت إليها الحال نجد أن البلاد باتت متوزعةٌ بين قسمين: الأول يتقاسم السيطرة فيه النظام والفصائل العسكرية المعارضة، بنسبٍ متفاوتة، وتشرف عليه إقليمياً ودولياً، تحت صيغٍ مختلفة، دولٌ ثلاث: روسيا وإيران وتركيا، وهو موضوع الاتفاق والترتيبات الأمنية، ثم المفاوضات السياسية؛ والثاني تتقاسمه سيطرة «الدولة الإسلامية» (داعش) وقوات وحدات الحماية الشعبية التابعة للفصيل الكرديّ الأكثر نفوذاً، وتتحكم فيه، إلى حدٍّ بعيد، الولايات المتحدة، دعماً هنا وحرباً هناك، وهو خارج مجال المباحثات والتفاوض المطروح حالياً.

الفصائل العسكرية الأكثر نفوذاً وتأثيراً هي الإسلامية، وصفتها الإسلامية ليست كافيةً لوصفها بالتطرف والإرهاب. فالعنف المفرط الذي واجه به النظام أولاً، ثم الميليشيات الشيعية، وأخيراً القوات الروسية، المجتمع السوريّ الذي خرج رافضاً سيطرة العائلة المزمنة واحتقارها للجميع، كان من الطبيعيّ جداً أن يكون الإسلام وعقيدته أحد أسلحته -إن لم يكن الوحيد- في مواجهة ذاك العنف الوحشيّ. لكن التحولات التي صاحبت هذا السلاح، وخاصةً الإقليمية والدولية، المساندة والمعارضة، سهلت تحويله أكثر نحو التطرف، وهو الذي يمتلك أرضيةً عقيديةً تسوّغ ذلك.

أما المعارضة السياسية، من حزبيةٍ ومستقلة، فلم تتمكن، لأسبابٍ أساسيةٍ في تركيبتها أولاً، وتصوّراتها المتوهمة ثانياً، وارتباطاتها الإقليمية ثالثاً، ولهاثها نحو السلطة أخيراً، من تشكيل جسدٍ سياسيٍّ وطنيّ (رغم مساعيها العديدة وتضحيات الكثير من تياراتها وشخصياتها)، جسدٍ يمكن أن يكون موحداً وعامل جذبٍ لغالبية السوريين.

فقد كانت معارضةً ديمقراطيةً دون العمل بالآليات الديمقراطية التي تقرّ بالاختلاف أولاً، وتجديد القيادة، وتعتبر العملية السياسية عملية صراعٍ بوسائل سلميةٍ بين القوى والفعاليات المحلية والإقليمية والدولية. فكانت -في أكثر أوقاتها- ديمقراطيةً دون حريات، مستندةً إلى جدرانٍ أيديولوجيةٍ يصعب التفاعل بينها، وثانياً خاضعةً وليست متفاعلةً مع العوامل الإقليمية والدولية. بمعنى أنها اعتمدت سياسة الانعزال داخل تلك الجدران بدلاً من أن تبني الجسور بينها.

والسؤال المهم حالياً: ما الذي يمكن أن تؤدي إليه مراجعاتٌ تنشدها تلك التيارات والشخصيات؟

وفق الظروف والمعطيات السابقة، التي ترافقت مع شعورٍ ووقائع لدى الكثيرين بنوعٍ من الفشل أو حتى الهزيمة، وسط دوامةٍ من المآسي والتخبطات التي تعيق إمكانية الخروج منها، قد تكون هذه المراجعات عوداً على بدء. فتعلقنا بالزمن الدائريّ المرافق للأساطير والعقائد يمنعنا من التجديد، من التقدم، بمعنى أنه عقبةٌ حقيقيةٌ أمام استيعاب المتغيرات التي يجب التعامل معها. فالاستراتيجيات تنطلق من الوقائع نحو إمكانية التأثير فيها وتحويلها إلى أشكالٍ ممكنةٍ جديدة، ولا ترسم الوقائع كما تتمنى العقائد.

وما لم تكن الوقفة جديةً وقصدية، بمعنى أن تكون مراجعةً ونقداً حقيقياً (سياسياً لا عقائدياً) لمسيرة السنوات الستة، بغاية محاولة التوصل إلى ما يحقق للناس ما يعدّونه الأكثر أهميةً وضرورةً لبناء البلد من حقوقٍ أساسيةٍ للجميع دون أيّ تمييز، ووفق قانونٍ يسود على الجميع ويكفل حريات الرأي والتعبير والاختلاف والعيش الكريم وغيرها من الحقوق الأساسية؛ ستتحول هذه المراجعات إلى تخندقاتٍ جديدة، ولكن بأشكالٍ أكثر عقائديةً وتطرفاً. فكلنا نعرف أن النتيجة التي وصلت إليها الحال، والتي تؤثر كثيراً في تقييم العملية السياسية، لا تتناسب إطلاقاً مع التضحيات التي قدمها السوريون ومع الدمار الذي لحق بالبلد. ولكن محاولةً جديدةً لفهم العملية السياسية بما هي عملية صراعٍ وتوافقٍ مستمرّين، بدلاً من التعامل بجمودٍ أيديولوجيّ، هي الكفيلة بتوصلنا إلى نقاطٍ مشتركةٍ غايتها حقوق البلاد والعباد، لا تدميرهم. وإن لم تكن المراجعات كذلك سنرى تخندقاً جديداً من طرف قوىً إسلاميةٍ أكثر تطرفاً من داعش، ومن جهةٍ أخرى قوىً «ديمقراطية» أكثر عقائديةً و«علمنة»، وسيكون الرابح الوحيد هو قوى الاستبداد والطغيان.