نهاية كيان داعش.. فطام الوهم وتجذير الانتقام

تلاشى الكيان المتماسك الذي كان يحمل اسم "داعش"؛ كاختصار عنيد لحروفية التنظيم الإرهابي في قوته، وفي مركز تحوّلات تسمياته المتناسخة منذ انطلق كفكرة تمرد داخل تنظيم "قاعدة الجهاد" في العراق على يد أبو مصعب الزرقاوي، ليصبح "الدولة الإسلامية في العراق" عند مفصل أبو محمد البغدادي؛ حين كانت "الشام البعثية" تدعم التنظيم التكفيري بالمقاتلين والأسلحة في حرب العراق الأهلية الممتدة، كعامل منع استقرار للاحتلال الأمريكي في هذا البلد.

ووصل الأمر إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" عند أبو بكر البغدادي، الذي عاد فبتر الجغرافيا المحددة النطاق تحت نشوة التمدد؛ لتصير "الدولة الإسلامية" في مطلق توهّم إعادة "الخلافة" وفق تصورات منقّاة ومصفّاة من بطون أصوليات عتيقة ومحدثة؛ تعيد الأمر كلّه إلى صراع لا ينتهي ضد الذات المسلمة في مواطنها -حيث يتترس الباطل- أولاً، وتالياً ضد الآخرين "الصائلين" و"القَعَدة" سواء بسواء.

ليس هذا مبحثا في ظروف وشروط تكون "داعش"، ولا في تنظيراته وبناه العقائدية، وعلى العموم فقد كتب الكثير في هذا وإن كانت لا تزال هناك مساحات هائلة من "عدم التعيين" التي تحاصر فهم هذا التنظيم. وما نحاول القيام به هنا هو قراءة في مآل الفكرة التي أسندت ظاهرة "داعش" كأحد أكثر التنظيمات الإرهابية إثارة للذعر في التاريخ المعاصر.

وفي تصورنا فإنّ التوصيف (الأكثر إثارة للرعب) يحتاج بدوره إلى تدقيق، فالواقع أنّ المقاربة التي ألصقت هذا الترتيب الأولي لـ"داعش"، تنطلق أساساً من صورة الوحشية المنفلتة التي قدمها التنظيم لنفسه عبر ماعرف بـ"إصدارات" دموية ومفزعة لعمليات قتل وإعدامات بشعة، نفذت بتقنية عالية على المستوى البصري، كما هي كذلك على مستوى تشخيص الضحية الخاضع.

لكن في القياس الرقمي، فإنّ "داعش" يحلّ ثانياً لجهة كونه الأكثر "رعباً" في سوريا بعد نظام حافظ الأسد وابنه القاتل الأكثر دموية في تاريخ هذا البلد منذ قرون طويلة، وهو يحلّ ثانياً كذلك لجهة عدد قتلاه من الغربيين، بعد "القاعدة" التنظيم الأم الذي شن أفظع هجوم إرهابي عرفه العالم في 11 سبتمبر 2001. غير أنّ شرط ولحظة ظهور "داعش" بصورته القصوى تزامن مع ثورات الربيع العربي وخصوصاً الثورة السورية، وهذا ما دفع التنظيم إلى حيز آخر في طريقة تفسيره وتظهيره.

صحيح بالقطع أنّ "داعش" قدّم صورة مروعة لإرهاب وحشي وعقليات قروسطية، ذبحاً وصلباً وتقطيعاً وحرقاً وتنكيلاً بالمجتمعات المحلية التي ابتليت بسطوته، لكنّه يفارق على نطاق معتبر تلك الحالة التملصية التي واكبت قوة "القاعدة". والتزامن مع ثورات الربيع العربي جعل التنظيم يقدم مجالاً أداتياً للأنظمة القمعية -وعلى وجه التحديد نظام بشار الأسد ورعاته الإيرانيين والروس- لدمغ المجتمعات المتمردة به.

وبينما كانت المسارات الإعلامية المواكبة لبروز "القاعدة" تقوم على نفي صلة التنظيم بواقع الحياة تحت سطوة هذه الأنظمة وإعلان "البراءة المضادة" منه، وهو فعل متكرر بسذاجة، فقد أحيل "داعش" إلى أن يكون "جزءاً" اجتماعياً مما تدّعي هذه الأنظمة مواجهته، ضمن ما تصفه البروباغندا الرسمية العسكرتارية والطائفية على أنّه دور الطغم الحاكمة في حماية العالم من خطر التطرف الشرقي الذي أنتج هذا التنظيم الإرهابي.

ومع أنّ كل هذه الانظمة -والبعثية منها أساساً- لاتقوم فعلياً بنفي المادة الخام للوهم الداعشي في سلوكها وخطابها "القومي"، فقد أحالت صورتها أمام الغرب إلى ما يشبه حرس غابة الوحوش المتطرفة التي ستنتج "داعش" دائماً إن حصلت على حريتها المنكرة.

الوهم الداعشي المتهاوي ليس وليداً منفصلاً عن الواقع بالتمام، فــ"دولة الخلافة" كيان قام وأحدث أثره الزماني والمكاني في حيزه التاريخي، غير أنّها لم تكن يوماً على الصورة التي "عفشها" التنظيم للتاريخ، وهي بالقطع ليست مطابقة للصورة المقابلة التي "عفشتها" أنظمة الوهم القومي العروبية لتاريخ ناصع وقوي للفاتحين العرب. التزوير المتقابل للأصوليات الفكرية التي تمد "داعش" وتفريخات القاعدة بمادتها الإيديولوجية، وللأصوليات القومية التي تقيم عليها أنظمة القمع بنيتها الملفّقة للحكم بضرورات إعادة بناء التاريخ مقابل تجاهل رزايا الحاضر، هو أحد الجسور التي أمدت "داعش" بما يحتاجه من تفسيرات شوهاء للدولة في حصاره الذاتي لعقل مسلحيه وأنصاره ومريديه.

و(الأكثر رعباً) هنا أنّ هذه الآليات ستظل قائمة، وهي قادرة على إعادة تذخير "داعش" أو اشتقاق تنظيم أكثر تطرفاً منه، إذ أنّ ثنائية الأصوليات الدينية والقومية تقيم مقاربة دائمة تعتبر المجتمعات المسلمة المعتدلة في غالبيتها الساحقة -والميالة ككل خلق الله إلى الحرية والعدالة والرخاء- مجرد مجاميع سلبية لا يحق لها أنّ تملك السلطة على ذاتها ومصيرها.

ومع أنّ نهاية "التنظيم" يجب أن تمثل فصلاً جديداً من "فطام الوهم"، إلاّ أن الدمار الاجتماعي والاقتصادي الذي حاق بهذه المجتمعات نتيجة ظهور "داعش" وقبله -وبموازاته وبعده- حرب الإبادة التطهيرية ضد أي نزعة تحرر أو انعتاق، ستجعل قدرة هذه المجتمعات على إعادة بناء اعتدالها المستقل عملية عسيرة ومكلفة، بعد أن بات هذا الاعتدال المستقل يصنَّف كتهديد للأنظمة التي تريد خضوعاً معتدلاً، يمنحها فرصة ترميم أدواتها المتطرفة استعداداً لعملية ابتزاز جديدة لعالم يرتعش عند ذكر "الإرهاب الإسلامي".

والحقيقة أن فطام الوهم "الداعشي" لم يترك ولو للحظة واحدة لآلياته الاجتماعية التلقائية التي يمكنها إنتاج بدائل  تفصل النزعة إلى الحرية والعدالة عن الحاجة إلى التطرف، وبينما يتهاوى "داعش" ويستسلم مقاتلوه بالمئات، أو يتوارون مؤقتاً لإعادة شن حربهم السرية ذات الأهداف الموضعية كما اعتادت القاعدة أن تفعل، فإنّ طوفاناً من التنظيرات المؤامراتية يجتاح المشهد مقدماً تفسيرات ساذجة وملفقة في معظمها لمصير التنظيم.

وفي العموم فإنّ ما يسمى بمعسكر الممانعة -وهو في جلّ تركيبته مكون من تنظيمات إرهابية تموّلها إيران- يدمن تقديم مثل هذه الجرعات الملفقة لأنصاره، وسنظل نقرأ طويلاً عن طائرات أميركية تنقل مقاتلي داعش من مكان لآخر من أجل تحطيم دول المعسكر المفلسة أصلاً، والتي كان لأنظمتها التعليمية دور أساسي في تأسيس وهم "داعش".

"داعش" ومثله "النصرة" وبقية اشتقاقات القاعدة هو في أحد وجوهه انقضاض الواهمين على منبع الوهم، وهو تحويل العجز البنيوي عن التطور -في ظل وجود القمع والطغيان المتخلف سياسياً واقتصادياً وحضارياً- إلى سلاح لإعادة إنتاج واقع منقرض لم تعد بيئة الحضارة الراهنة تسمح بوجوده. هو اليأس من جدوى الوضعي مقابل بريق الشرعي. انتصار لتبسيط الدولة على حساب الانتماء إلى حضارة كونية طالما كانت تقدَّم من قبل ثنائية الأصوليات على أنّها عدوة دائمة للإسلام والعروبة.

هناك دائماً سؤال عما بعد "داعش"، والواقع أنّ ثمّة تصورات عن تنظيم أكثر وحشية سيظهر في قابل الأيام، تقابلها تصورات عن تبدلات بنيوية في تركيب التنظيمات المتطرفة بعد أن نقلها "داعش" إلى ذروة جديدة. لكن هناك أيضاً "وهم" موازٍ حول مستوى تطوّر التنظيم عما سبقه، فداعش لم ينفصل عن منطق تداخل العنف بواجهته الدينية مع التخلف الاجتماعي، والتنظيم لم يخرج أيضاً عن عملية تقليدية قام بها أسلافه تستبدل هرمية النظم الاجتماعية التقليدية بإنتاج "عشيرة التنظيم"، وهي آلية اشتقها "داعش" من تجربة القاعدة وطالبان في باكستان وأفغانستان. وفي حين أنّها تعمل على مستوى تفكيكي يفيد قوة التنظيم خلال مرحلة تماسكه، فهي آلية خطرة حين تبدأ العمل بطور معاكس مع انحلال التنظيم، بحيث تعيد توزيع إرثه على عشائر بذاتها، وتنتج زعامات مركبة من العشائرية التقليدية التي تمنح نفسها سلطة مرجعية مهووسة بالانتقام من زعامات مقابلة ورثت تنظيمات كانت منافسة لداعش أو غيره.

والواقع أنّ هذا تجذير جديد للوهم ذاته، ستعززه حالة الفوضى وانحلال الدولة التي تحولت إلى قاتل متطرف، ولن تقدم حالة الحصار والانهيار، التي يحاول النظام في سوريا تغليفها بوهم الانتصار، سوى بيئة خصبة لكمون "الوهم الداعشي" بانتظار فرصة الانقضاض الثانية.