مقتل أبو خَشّة وتظلّمات أهله
عيّنةٌ عن قضايا محاكم تنظيم الدولة الإسلامية

تسلط قضية أبو خَشّة (بمعنى المجنون) الضوء على جزءٍ مهمٍّ من الحياة الاجتماعية في المنطقة الشرقية، إلى جانب وحشية واستهتار عناصر تنظيم الدولة الإسلامية وتخبّطهم وفسادهم، وتوضح طريقة تعامل مسؤوليه مع هذا الملف الذي أودى بحياة صاحبه، وتكشف أعرافاً وتوازناتٍ وصراعاتٍ ضمنيةً تعيشها المنطقة، وسمت التنظيم بطابعها في جوانب كثيرة (وقد أنعشها، بدوره، في كثيرٍ من الأحيان)، كما تفضح بعض دوافع تلك الصراعات وأطرافها وردّات أفعالهم. إذ يتكلم الأهالي عن جماعات قوى، عشائريةٍ ومالية، تشكل سلطةً موازيةً لسلطة أجهزة التنظيم، بل ربما تفوقها.

وقد اعتمدت هذه المادة على لقاءاتٍ مع أقارب الضحية وصورٍ عن التماساتٍ وتظلماتٍ خطيةٍ وإفاداتٍ قدمها أهله لأجهزة التنظيم، إلى جانب صور خصومهم من الأمنيين والرصّاد، تحتفظ بها «عين المدينة»، وقد امتنعت عن نشرها وغيّرت بعض الأسماء حرصاً على حياة أهل الضحية.

ملابسات القضية
عُرف أبو خَشّة بهذا اللقب بعد حادث سيرٍ وقع له منذ أكثر من خمس عشرة سنة، سبّب له حالةً عصبيةً تشبه الصرع، ورغم ذلك فقد تابع عمله كموظفٍ في الجمعية الفلاحية في قريته شرق دير الزور بين أهله وأقاربه، حتى اعتقله أمنيو تنظيم الدولة يوم 27/9/2015، وعمره وقتها 45 سنة. لم يثر الأمر أيّ مخاوف جديةٍ لدى العائلة في البداية، لأن أعداد المعتقلين في منطقتهم كانت تصل آنذاك إلى أكثر من عشرين شخصاً في اليوم، يفرَج عنهم بعد يومين أو ثلاثة، فظنوا أنه «اعتقال روتيني!». فضلاً عن أنهم كانوا متأكدين أن سبب الاعتقال هو مجرّد شتيمةٍ وجهها أبو خَشّة إلى رجلٍ من القرية مرتبطٍ بالتنظيم، يدعى أبو الحارث، نقلها له ابن عمة أبو خَشّة وهو أحد المبايعين المحليين.

ولكن بعد أن طال اختفاء أبو خَشّة بدأ أهله بالتحرك لمعرفة مصيره، فقدموا الالتماسات الخطية والاستفسارات لمسؤولي التنظيم المعروفين هناك، بالتوازي مع البحث عن ابنهم بطرقٍ أخرى. وقد عرفوا -بعد شهرين تقريباً- أن ابنهم أعدم بتاريخ 17/11/2015 في بلدة خشام (20 كم شمال شرقي مدينة دير الزور) بجانب مقرّ الشرطة بالقرب من المدرسة، وقد نفذ القتل أحد الأطفال (أشبال الخلافة) المحليين المنتسبين إلى التنظيم. وباستعمال علاقاتهم الاجتماعية وصل أهل الضحية إلى وجهاء في الرقة، ومن خلالهم قابلوا مسؤول العلاقات هناك، ليخبرهم رسمياً أن ابنهم قتل بتهمة الردة. كما وصلوا إلى أمير القاطع الشمالي في «ولاية الخير» أبو عبد الله معيجل، ومنه عرفوا أن ابنهم قتل للتهم التالية (حزبي لم يعمل استتابة؛ خروج مسيرات تأييد للنظام في 2011؛ تفضيل الشيعة على السنة؛ سبّ الدولة)، وذلك بعد أن أوصاهم الأمير بعدم إخبار أحدٍ عن مصدر المعلومات! وعرفوا من أطرافٍ أخرى الكثير من التفاصيل والأسماء المرتبطة بالملف.

في السجن
في أحد البيوت التي صادرها التنظيم في الحوايج (قريةٌ تابعةٌ لبلدة ذيبان، 53 كم شرق مدينة دير الزور) سجن الأمنيون أبو خَشّة، في الوقت نفسه الذي سُجن فيه هناك قريبٌ له اتهم بالتواصل مع جهاتٍ خارجيةٍ وبدعم الجيش الحرّ. وعن التعذيب الذي تعرّض له كلٌّ منهما يروي قريب أبو خَشّة أنه ضُرب بـ«الأخضر الإبراهيمي» المدعّم (أنبوب المياه البلاستيكيّ الأخضر المشهور في التعذيب، يضعون في داخله سيخ بناءٍ معدنيّ)، لكن ذلك لم يعنِ له شيئاً -كما يقول- أمام التعذيب بالكيس، وقد مارسه الأمنيون لانتزاع اعترافه. فقد ركنوه على الأرض وظهره إلى الحائط، ممدد الرجلين، مقيد اليدين، وألبسوا رأسه كيس البلدية الأسود (كيس الزبالة)، وراح يجمع أطراف الكيس ويلويها أحد الأمنيين حتى حبس عنه الهواء، ووضع آخر يده على فم المتهم وأنفه، بينما أمسك الباقون بأطرافه لتثبيته. وقد نبّهه الجلادون، قبل وضع الكيس، إلى هزّ رأسه إذا كان قد قرّر الاعتراف. أغمي عليه مراراً أثناء وضع الكيس، وكان أحدهم يرفسه حتى يعود إلى وعيه، ليكرّروا العملية أربع أو خمس مرّات.

حين يسرد القريب هذه الأحداث الآن، يغطي بيديه الخمسينيتين وجهه مراراً، وكأنه يحاول الهروب منها، فما زالت تثير لديه الرعب رغم رباطة جأشه وعناده اللذين ساعداه في مواجهة كل تلك الوحشية دون أن يقرّ بالتهم الموجهة إليه رغم التعذيب الذي استمرّ مدّة شهرٍ تقريباً. ولكن هذه الأيام المرعبة كانت كفيلةً بأن ترتب أمر اعتراف أبو خَشّة بالتهم التي ستودي بحياته عندما سيزور «القاضي» أبو عبد الله الكويتي السجن ويحكم عليه بالقتل، ويفرج عن قريبه بعد حضور دورةٍ شرعية.

التظلّمات
بعد أربعة أشهرٍ من مقتل أبو خَشّة دفع أخوه المبايع للتنظيم بورقة استفسارٍ لمكتب المظالم العام التابع لديوان القضاء والمظالم، وفيها يشرح صدمة الخبر الذي ورد بمقتل أخيه رغم أنه مجنون (كما جاء في الاستفسار)، وينبّه إلى أن «الشهود الذين شهدوا عليه قد هربوا إلى تركيا» (ثلاثة من أصل خمسة) بعد أن سمعوا بالحكم. ولم يكن بإمكان الأخ طبعاً ذكر قسوة الأمنيين الذين انتزعوا الاعترافات أو التجرؤ على الإشارة إلى استهتار «القاضي» الكويتي. وإثر هذا التظلّم أمر قاضي محكمة الميادين (أبو أسيد الليبي البرغاوي) بحبس الرصّاد الذين وشوا بأبو خَشّة، لكنهم خرجوا بعد شهر. وبعد ما يقارب الشهرين من هذا الاستفسار قدّم والد أبو خٓشّة تظلّماً آخر، تكلم فيه عن الحادث القديم الذي تعرّض له ابنه وعن حالته العقلية ووضعه في القرية، لكن قاضي المظالم أبو أنس ظل يؤجل القضية حتى حلّ محله، قبل خمسة أشهر، أبو أحمد الإدلبي، الذي وجّه الأهل إلى الشكوى ضد أبو عبد الله الكويتي ذاته، وكان قد نقل إلى «ولاية الشام».

لم يترك الأهل الأمر لديوان المظالم فقط، بل راحوا يطرقون جميع الأبواب، فوصلوا عن طريق المعارف إلى الكثير من مسؤولي التنظيم في «ولاية الخير»، كأبو عباس المغربي المسؤول عن مكتب الحقائق والتقصي، وأبو الأسفاط السوداني المسؤول عن معاهد التوبات، وأبو جليبيب الجزراوي مبعوث البغدادي، وشرحوا لهم الموضوع، فتدخل بعض هؤلاء وحاولوا تحريك القضية التي كانت تعاود التوقف في كلّ مرة.

وفي تطورٍ لافتٍ هاجم الراصدان المتبقيان أخا أبو خٓشّة في مدينة الميادين، وأطلق أحدهما النار عليه، ثم هربا بعدما تركاه مصاباً attachment-1-1في قدمه قبل أن يسعَف إلى المستشفى. واعتقل على إثر ادعائه الراصد الذي أطلق عليه النار، لكن أبو الحارث (ورد في أول القضية)، وهو شقيق هذا الراصد، ادّعى أنه هو من أطلق النار ليحمل القضية عن أخيه (وهي عادةٌ متبعةٌ في دير الزور). أوقف أبو الحارث لشهرين، وأخلي سبيله بعدها، وذلك ما يذكره التظلم الأخير الذي رفعه الأخ المبايع إلى مكتب العدناني قبل أن يُقتل هذا الأخير.

إفادات
يفيد عددٌ من أبناء القرية أن أبو الحارث كان أول مبايعٍ للتنظيم من قريته. وقد فُصل منه ثم غُرّم بمبلغٍ كبيرٍ لأسبابٍ تتعلق بتجارة السلاح في الخفاء وسرقة غنائم من الشعيطات والعمل في النفط قبل سيطرة التنظيم. لكنه ظل يحوز مكانةً ممتازةً ويمارس سلطات أميرٍ في القرية، يجند العناصر والرصّاد، وله علاقاتٌ واسعةٌ مع قيادات التنظيم في المنطقة. وقد وصل إلى أهل أبو خَشّة أن أبو الحارث دفع لإيقاف القضية 12 مليون ليرة سورية* لمحمد الرفدان (أخوه عامر الرفدان أحد أبرز أمراء التنظيم المحليين، قتل في غارةٍ للتحالف الدوليّ منتصف 2015).

كما يفيد أكثر من شخصٍ أن أخا أبو خَشّة المبايع كان يحضر دورة استتابةٍ عند اعتقال أخيه، وبعد أن سمع بمقتله قرر مبايعة التنظيم للاقتصاص من القتلة! (يرى أهل الضحية أن القتلة هم رصّاد القرية، وليس التنظيم أو جلاديه أو القاضي). ويتناقل الأهالي أن الرصّاد الذين وشوا بأبو خشّة ندموا على فعلتهم، إذ لم يكونوا يتوقعون أن الأمر سيصل إلى القتل (الأمر الذي يذكره أحد التظلمات، إلى جانب ما يذكر عن سبب الوشاية، وهو عداءٌ شخصيٌّ بسبب خلافٍ على بيع قطعة أرض).

أرفق والد الضحية بأحد التظلمات أوراقاً تحوي إمضاءات رجال ووجهاء ومتعلمي القرية ومحيطها، يشهدون فيها على جنون أبو خَشّة، وقد تجاوزت المئة توقيع، بالإضافة إلى عددٍ من تواقيع عناصر في التنظيم.

يقول أحد أهالي القرية: «إذا قتلتهم داعش كان بها، وإذا ما قتلتهم صار الموضوع ثار، راح ياخذون بيه بعدين».
 

* هناك الكثير من الأحاديث التي تتكلم عن رشاوى بمبالغ قريبةٍ من هذا الرقم، يتلقاها أشخاصٌ من وزن محمد الرفدان لإيقاف أحكام قتل.