ما بعد الغوطة... خديعة النصر الفارغ

AFP

إنّه مشهد كالح بلا شك، لكنّه بقدر ما يستوجب إعادة التفكير، وعدم خداع الذات بتوقّع تبدّلٍ درامي في سير الأحداث الدامية في سوريا بين ليلة وضحاها. فإنّه يستوجب أيضاً، وبنفس القدر من الثقة، عدم التورط في خداع الذات بالركون إلى يقين الانكسار، وتنمية الحسّ بالهزيمة، لأنّها لم تحدث بعد، ولأنها ما تزال بعيدة.

هل يختلف ما بعد الغوطة عما قبلها؟

هذا سؤال بشقين، ميداني عَملاني، وآخر سياسي استراتيجي. والإجابة عليه يجب أن تتضمن قدراً من الاستطاعة في نقد الذات، دون الانخراط في بكائيات لا تجدي نفعاً.

في الجانب الأول، كان ثمة توقّع منذ انطلاق العدوان الثلاثي الأسدي –الإيراني –الروسي على الغوطة أنّ الأمور ذاهبة إلى النتيجة التي حدثت فعلاً، وحتى وإن كان البعض قد توقّع صموداً أطول، فإنّ الجيب المُحاصر لسنوات، والمحشور حشراً بالبشر المنهكين، ما كان له أن يردّ حملة القصف الوحشية، ولا منهج الإبادة الثابت عند محور الطغيان (حاصر، جوّع، اقصف، هجّر). وهو بكل الأحوال استنتاج واضح، ويبدو أنّه في طريقه ليكون موضوع توقّع في بقعة أخرى من سوريا، تُشير مقدمات آلة الدعاية الروسية –الأسدية إلى أنّها ستكون القلمون الشرقي.

في الشق السياسي الاستراتيجي تختلف الصورة باختلاف أداة القياس، فالنصر المزعوم سيقاس هنا بالمقدرة على تحويله إلى استقرار مستمر، حتى وإن جاء ذلك عبر قمع البشر الذين وقع عليهم. وفي الغوطة لا يوجد شيء من هذا، فالنظام أزاح باستثمارٍ وضيع للتفوق الجوي الروسي الكاسح مجتمع الغوطة من أرضه، ليطلق السلسلة المعتادة في النهب والتنكيل والاعتقال من أجل الانتقام أو التجنيد القسري، وهو عاجز عن إعادة هيبته التي سقطت في الغوطة منذ 2011. ولا يمكنه تصريف هذا الحدث سياسياً على المستوى الدولي، ولن يمكنه ضبط الأمن في المنطقة، لأن التهديد يأتي من ميليشياته ذاتها وسلوكها الانتقامي الطائفي.

ماحدث في الغوطة هو إجراء إبادة، وشناعات مفزعة ضد مدنيين محاصرين، لن تفيده في غير إضافة حقد جديد للتربص القائم في مسار «ثأر الغوطة القادم حتماً» منذ أيّام الحصار.

هو مشهد لا يمكن ابتلاعه قطعاً، وثمّة خيط من دم وقهر يربط صور النازحين من الغوطة بمواطنيهم في حلب، وحمص، والزبداني، ودير الزور، والرقة وغيرها. وبينما لا يملك الأسد خياراً سوى المضيّ في ميكانيكية القتل الجماعي والتهجير الممنهج، فهو يفقد أوراقه تباعاً في تقدمات ميدانية لامعنى سياسياً لها.

وبقدر ماهو صحيح أنّ خرائط الميدان قابلة للتحوّل بسرعة، فإنّ الحاصل السياسي بعد أيّ نصر يجب أن يكون تراكمياً ومُجدياً. وإذا كان إنكار صدمة وفجيعة خسارة الغوطة يُمثل تحايلاً غير مفيد بل وضارّ جداً، فستكون مقابلته بالركون إلى نزعة الاستسلام ضرراً أكبر.

الواقع أنّ هناك أيضا التباس جوهري في تفسير نتائج التقدم الميداني لمحور داعمي النظام، عبر استخدام وضع المدن التي بقيت تحت سيطرته كنموذج مقارنة لقياس إنتاج حاصل سياسي واستراتيجي مُتوهم. وهذا أيضاً ليس موضع تطابق، فالمناطق التي أعاد احتلالها لا تشبه في واقعها أيّا من مواقع سيطرته المستمرة، وكلّها لا تشهد أيّ نمط لعودة الحياة، بل إنّها في الحقيقة ليست سوى خرائب خاوية ومتخمة بموارد التعفيش بعدة طبقات، تبدأ بنهب الأثاث ولا تنتهي باستخراج حديد الأبنية ومقاولات الهدم وإخفاء جرائم الحرب.

لا يشعر الأسد، كأيّ طاغية يُشبهه، بالتزام تجاه الشعب بمن فيهم شبيحته، وحتى بين هؤلاء أثناء احتفالاتهم الشامتة بانتصارهم في الغوطة، ثمة رهط مازال يملك بعض القدرة على قمع سؤاله: ماذا سيحدث حين تنتهي مفاعيل مقاولة حماية الأسد، وتُغادر الطائرات الروسية؟ من سيدفع ثمن الحرب بعد أنّ يستقر البلد على حالة شلل نصفي.. وإفلاس ثقيل؟

لم ينتصر الأسد في الغوطة، هو مهزوم منذ سبع سنوات، وكلّ ما فعله أنّه تخلص مؤقتاً من هزيمة رابضة على تخوم دمشق، ليجدها بصورة أخرى لا مجال لنكرانها.