ربما كان لجوء أعداد متزايدة من السوريين إلى أوروبا واحداً من أغرب موجات اللجوء الحديثة، لناحية زيارة مؤيدين للنظام منهم للمكان الذي يُفترض أنهم أُجبروا على الفرار منه، ولناحية التباس الموقف السياسي لدى كثيرين بينهم نحو قضية مصيرية، ولناحية قدوم البعض من دولة ثالثة كانوا يعيشون فيها بشروط مريحة، وفي جميع الأحوال لم يكن الأمر غالباً فراراً من الموت إلى بلد مجاور، بل رحلة مخططة ومكلفة وصوب جغرافيا بعيدة.

شهدت الشعوب التي عرفت بلدانها اضطرابات، أو ثورات أو حروب أو تعرضت لظلم أو ملاحقة أو إبادة، موجات من الهجرة إلى قارات بعيدة، لكن لم تعد الأجيال اللاحقة منها إلى الموطن الأصلي، حتى على سبيل الزيارة، إلا بعد حدوث تحولات تاريخية في بلدانها تصل إلى حدّ الانقلاب الجذري وانتفاء التهديد الحقيقي الذي بقي مستمراً لعقود، كما أنها في منافيها التفّت حول قضية واحدة لم تكن موضع خلاف لديها في الموطن الجديد.

يمتاز اللجوء السوري بأن الحدث الذي كان مسبباً له لايزال قائماً، ولاتزال صلة الكثيرين بالبلد قريبة وقوية، كما أن للعديدين أقارب وأصدقاء لايزالون في الداخل، فيما تُتيح وسائل الاتصال الحديثة الحصول على صورة تفصيلية عن ما يحدث في البلاد، ومعرفةٍ عن كثب بكافة مناحي الحياة هناك، لكن الخطورة تنشأ من إغراء نغمة أن (ترجع سورية كما كانت)، وهي تعني ضمناً إضفاء صبغة من المثالية الزائفة على سورية ما قبل الثورة، كما تؤدي إلى ضرب من المصالحة الجماعية مع النظام المُتسبب بالكارثة، مصالحة على مستوى الوعي، أي تطبيع بحكم الأمر الواقع يبدأ فردياً، فيما لاتزال شرائح واسعة من نتاج التربية البعثية غير قادرة على ذلك الفصل القاسي والضروري بين البلد والنظام.

معظم السوريين لايزالون يلتفتون وراءهم، وإن كان هذا أمراً طبيعياً، إنسانياً وعاطفياً، إلا أنه يعني أن ثمة شعور بالمؤقت، من الناحية النفعية الانتهازية، يتحول ذلك لدى البعض إلى الحصول على إقامات وجنسيات، افتتاح مشاريع أو نيل شهادات دراسية، ومن ثم العودة إلى حضن الوطن مع مزايا جديدة أتاحتها (فرصة) الحرب. من ناحية ثانية يحُول الشعور بالمؤقت لدى آخرين دون الانخراط في الحياة الجديدة في البلدان المستقبلة، وبقاؤهم على الهامش أو أسرى لأحداث بعيدة وذكريات.

قد يُفهم من اللجوء أنه فعل تمّ قسراً، وهو مختلف عن الهجرة الإرادية، وبانتفاء الشروط التي أدّت إلى حدوثه فإنه لا يعود له مبرر، تنتهي الحرب فيعود اللاجئون إلى ديارهم. لكن تاريخياً، قلّما عاد لاجئون. وبما أن اللجوء السوري من أغرب موجات اللجوء، فإنه من المُتوقع أن يعود عدد لا يُستهان به ممن عدّوا لاجئين، وبالتحديد من أوروبا، ولاشيء يمنع ذلك إلا المزيد من التحسن في الخدمات الأساسية والأوضاع الأمنية في سورية، وشهر عسل الرعاية الاجتماعية الأوروبي يأتي وقت وينقضي ويجد اللاجئ نفسه مُجبراً على إيجاد عمل في نظام اقتصادي صارم وجدّي ويتطلب معرفة، لا مكان فيه للعائلات والعلاقات والمحسوبيات. هذه النقلة الصعبة قلّة ينجحون بالقيام بها، أما البقية، خاصة ممن تجاوزوا الأربعين من العمر، فمصيرهم العطالة، أو العودة إن لم يكن إلى البلاد فإلى جوارها، مع عدم مضي وقت طويل على خروجهم، فهم لم يكن لديهم الوقت الكافي لإنشاء صلة خاصة مع المكان الجديد.

لاشكّ أن ثمّة كتلاَ وازنة معارضة للنظام بين اللاجئين السوريين في أوروبا، وهذه بالضرورة لن تكون عودتها مُتاحة أو قريبة، إن حدثت، وأحجام هذه الكتل تختلف من بلد لآخر، كما أن شعورها بالدعم والحماية يختلف من دولة لأخرى، ويتأثّر بالمزاج الدولي المتبدّل والموقف المتغير من النظام. كما أن داخل هذه الجماعات نفسها توجد انقسامات تبلورت بشكل أكبر في أوروبا بين تقليديين وحداثيين، إسلاميين وعلمانيين، وما كان صدمة ثقافية للبعض كان مناخاً للحرية للبعض الآخر.

لايزال اللجوء السوري حالة رجراجة، لن تستقر إلا باتضاح الصورة في سورية نفسها، وفي خط موازٍ ستفرض الحياة الواقعية والمصائر الفردية على اللاجئين خيارات متنوعة، من بينها، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة، الحضور الفاعل في المجتمع المستقبل: بدءاً من التمكن من لغة حديثة، حتى العمل والإنتاج في بلد غني، وصولاً إلى التشبع بالثقافة السياسية والحقوقية.

بالنسبة للطاقة الهائلة المسماة اللجوء السوري في أوروبا (نحو مليون لاجئ جُلّهم في ألمانيا والسويد)، ربما كانت المعادلة الذهبية هي الانخراط الفاعل في المجتمعات الجديدة، وهي مجتمعات ديمقراطية يحكمها القانون، والاندماج في ثقافتها العريقة ونظامها الاقتصادي القوي، والعمل على التأثير داخل هذه الدول الكبرى بما تتيحه من وسائل مشروعة لصالح قضية الوطن الأم.