ليست بندقيةً تلك بل هي غيتار.. إنه عازف وليس مقاتلاً
مشهد سوريالي على هامش الموت: الموسيقى والساحل السوري

لقطة من فلم التايتنك تظهر غرق السفينة بينما الفرقة تعزف

في الساحل السوري، حيث صار عادياً مشهد السلاح والمسلحين بأنواعهم وهيئاتهم  المختلفة، يبدو غريباً اليوم ظهور آلات موسيقية على أكتاف شبان وشابات في الشوارع المثقلة بآثار الحرب، حيث صور القتلى وكتابات تطلب الثأر لهم تملأ الجدران.

هنا في طرطوس وفي اللاذقية وجبلة وبانياس، ووصولاً إلى الداخل، أي ريف حماه ومصياف والغاب، بات مشهداً يومياً معتاداً مرور شبان وشابات في سن الثانوية يحملون الآلات الموسيقية، ويمضون باتجاه معاهد للتدريب، أو إلى بيوت أو صالات للعزف. صورةٌ من عاش في مناطق الساحل والداخل سيجدها غريبةً حد السوريالية، فعادةُ حمل الآلة الموسيقية كان يقتصر تقريباً على أحياء معينة من دمشق وحلب، أحياء ذات طابع أرستقراطي هادئ، وأسر تعنى بالموسيقى كجزء من ثقافتها وصورتها الاجتماعية.

لا يخلو شارع في طرطوس أو اللاذقية، بل وفي بانياس والقدموس وجبلة وحتى في البلدات الريفية المترامية على أطراف الجبال، من حَاملي الآلات الموسيقية اليوم، تزامناً مع تأسيس عشرات المعاهد الموسيقية، إلى جانب محال البيع والصيانة لها، بعضها يختص بآلات دون غيرها. فيما تظهر على صفحات التواصل الاجتماعي إعلانات دورات وافتتاح معاهد تعليم جديدة، ونشأت صفحات ومجموعات فيسبوك مختصة ببيع وصيانة الآلات، وأخرى لأصدقاء إلكترونيين أو واقعيين يتبادلون فيها النوتات الموسيقية، في ظاهرة تخالف السائد في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، حيث يظهر، في كل صغيرة وكبيرة من حياة الناس هناك، أثر ما للحرب والتبعية والاصطفاف الطوعي أو الإجباري إلى جانب النظام.

يعلن نزار أستاذ الموسيقى في مدينة بانياس الساحلية، كل شهر تقريباً، عن افتتاح صفٍّ جديد للتدريب على آلة موسيقية معينة، ويستعين باثنين من أصدقائه، أحدهما عازف غيتار غير أكاديمي، والثاني خريج معهد موسيقي وعازف كمان، لاستيعاب أعداد الطلاب التي تريد تعلم العزف على تلك الآلات، بينما يعلم هو حوالي 15 طالباً العزف على آلة العود. جواباً على سؤال «موسيقى!!.. من إيمتا كنا والشمس ترقعنا؟» يقول نزار «لا أبحث عن أسباب إقبال الشباب والفتيات في بانياس وريفها على تعلم الموسيقى، فقط أشجع هذه الظاهرة، وأبني عليها مشاريع مستقبلية كفرقة كورال، وأوركسترا وما إلى ذلك، في منطقتنا تشكلت الكثير من الفرق، ولا يمر أسبوع دون حفل موسيقي. أليس هذا جيداً؟ ثم إن كنت تتساءل عن سبب الانتشار سأقول بأنه توجُّه لدى الناس لسماع صوت آخر غير الرصاص، وبحثهم عن حياة إنسانية طبيعية، بعيداً عن القتل اليومي». وفق نزار فإن أعداد محال الآلات الموسيقية في طرطوس واللاذقية، وفي بعض المدن الصغيرة الأخرى من الساحل السوري، تضاعف كثيراً، لكنه لا يملك إحصائية بذلك، «سابقاً كنت بحاجة إلى الذهاب إلى حمص أو دمشق لشراء آلة معينة، فهنا لا وجود سوى للآلات الشعبية الشهيرة، وبنوعية دون الوسط، أما الآن فأنت قادر على الحصول على ما تريد، وتعلّم ما تريد في المعاهد أيضاً».

وفي لفتة قد تبرر جانباً من غرابة المشهد يروي مؤيد وهو موظف في طرطوس «خلال السنوات الخمسة السابقة انتشرت مؤسسات مجتمع مدني كثيرة هنا، ونشط العمل الاجتماعي والمدني، وشجّعت الدولة ورخّصت المئات من الجمعيات والمنظمات التي تعمل في قضايا مدنية كثيرة: دعم نازحين، دعم أسر الشهداء، توعية اجتماعية، توعية صحية، دفاع مدني، تعليم إلخ، ومن بينها ما اهتم بالموسيقى، وتوجه نحو نشر الثقافة الموسيقية، ومن هنا بدأت بذرة جديدة تتكون خاصة في المدن الصغيرة والقرى التي كانت مهملة، وهي بذرة تداول الموسيقى وتعلمها». يضيف مؤيد «قد يلفتك توجه الأسر نحو إرسال أبنائها إلى المعاهد الموسيقية، وتقبّل العزف في المنزل، وهو ما كان غريباً نسبياً، لكنه بكل الأحوال إيجابي؛ قد نبرره بالفعل بظرف الحرب والموت والجنازات المتلاحقة في مناطقنا، بل واتجاه الناس نحو إشغال أبنائها بما هو بعيد عن الحرب.. قد تجد هذا غريباً بالفعل، أجيبك حينها: وهل من تغيِّر على أي صعيد في سوريا لا يبدو غريباً وغير منطقي الآن، هل تسير البلد والمجتمع والأسرة السورية في أي سياق منطقي».

في الوقت الذي تشهد فيه دمشق وحلب -المدينتان اللتان كانتا تضمان أكبر أسواق آلات ومعاهد الموسيقى في سورية-  تردياً كبيراً في هذه المهنة، مع ارتفاع أسعار الآلات، وهجرة الصانع أو إفلاسه، يتجه اليافعون في الساحل وريفه لبناء ما لم يبنَ سابقاً في مناطقهم.. تغشى أعين الكبار في السن عنهم أحياناً حين يمرّون في الشارع، فيظنون هذا الغيتار على كتف هذا الشاب بندقية كلاشنكوف، وذاك الكلارينيت قاذف آر بي جي، وتبتسم الأمهات بعودة أبنائهن من المعاهد يحملون الآلات قبل أن يبلغوا السن القانونية للخدمة الإجبارية، في بيئة عسكرية تتسع فيها يومياً مساحات مقابر الجنود، وتتكاثر صور زعماء الحرب على واجهات المحال والأبنية.. ويكثر في الظل موسيقيوها.. أية موسيقى تلك!!