قصص من مخيم الشبيبة في إعزاز.. حيث تُوشك الأمهات على بيع أبنائهن

بعدسة الكاتب

تحدثتُ مع منى بعد أن علمتُ بأنها باعت ابنها ذي الستة أشهر مقابل مليون ليرة سورية. المشتري كان امرأة عاقراً لا تستطيع إنجاب الأطفال، والبائع أحد قاطني مخيم الشبيبة، المكان الذي يتخلى الإنسان فيه عن كل أحلامه ويدفنها إلى الأبد، والشهود خيام بيضاء عملاقة بثلاثة صفوف لو كان لها ذاكرة لتسجل ما قيل داخلها، أو لو أن لها إحساس بهموم من سكنوها لرأيتها منكمشة على نفسها تُحدق في السماء الواسعة بحثاً عن حل، كما يفعل السوريون في كل ليلة. حيث تصبح الذاكرة عبئاً والحنين حياة يومية، ويُصبح عدّ الأيام وإحصاؤها فرضاً جديداً.

الكلام هنا ليس عن أحد معسكرات الاعتقال النازية، بل عن مخيم الشبيبة في حي الصناعة شرق مدينة إعزاز المؤلف من عشرين خيمة قدمها الهلال الأحمر القطري، يتفاوت عدد قاطنيه وفقاً لمواسم الهجرة إلى الشمال، ويتعاون في خدمته عدد من المنظمات الدولية والمحلية، بإشراف من المجلس المحلي في إعزاز. ويعد أحد أهم مراكز الإيواء التي تستقبل النازحين الجدد أو الأغرار، قبل أن ينتقلوا لمرحلة النازح العادي الذي أصبح بإمكانه متابعة حياته دون أن يلتفت كثيراً إلى الوراء، فلا بد مهما تعودت أن تلتفت في لحظات انفرادك بنفسك إلى الوراء.

في هذا المخيم ينتقل النازحون من ماضٍ أسود يلفظهم إلى مستقبل أسود لا يقبلهم. من مدينة أو قرية تشبثوا بها حتى انتُزعت أظافرهم، إلى مدينة يصيبهم الرعب من احتمالية كونها نقطة اللا عودة. فإن كان من سنن الحياة ألّا عودة في الزمان، فلا عودة، منذ وضعوا رحالهم في هذا المخيم، إلى المكان. سيقضون أيامهم في هذا المخيم يلعنون هذا الزمان الذي جعلهم يتركون ذلك المكان، وكم لدينا من القصص في باقي المخيمات والمنافي.

في قصة منى تدخّل بعض الناس لمنع هذه الحماقة، وقاموا بإعادة الطفل لأمه، وتأمين عمل لها في المخيم على هامش المدينة مقابل مئة دولار أمريكي، كي لا تشتكي من الحاجة التي تقول إنها دفعتها لبيع ابنها. سألتُها عن أهلها فأجابت أنهم لا يعترفون بها بعد أن تزوجت ابن عمها رغماً عنهم. اضطر زوجها المقاتل في الجيش الحر لـ «تشويل» أبيها بمساعدتها، وأن يجبره على الرضوخ لرغبتهم. مات الزوج لاحقاً في إحدى المعارك وبقيت هي بدون مُعيل.

ما يعيشه المخيم ليس إلا نتاج الحالة المأساوية لساكنيه. فهم وصلوا للتو إلى ما يمكن وصفه مجازاً بشاطئ الأمان، بوجوه شاحبة وأبدان متعبة وجيوب فارغة. نال أكثرها تجار البشر من المهربين الذين سهّلوا وصولهم إلى هذه النقطة. أما القائمون عليه، فهم مجموعة من عمال المنظمات الإنسانية الذين يحاولون تخفيف معاناة النازحين بعد أن تأكد للجميع استحالة انتهاء هذه المعاناة في الوقت المنظور.

في مخيم الشبيبة قابلت الحاج أحمد، نازح أتى من الموصل برفقة عدد كبير من أفراد عائلته الشباب والنساء والأطفال، بعد أن نصحهم ضباط أتراك في معسكر (بعشيقة) شمال العراق بالتوجه إلى هذه المنطقة، ليتم إدخالهم إلى تركيا بعد ذلك. قطع أبو أحمد مئات الكيلومترات عبر مناطق سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، كما فعل مثله عشرات الآلاف من الموصل وكركوك وتلعفر. نجوا في هذه الرحلة من قصف التحالف الدولي، إلا أنهم فقدوا أحد أطفالهم عند مرورهم في حقل للألغام زرعها عناصر التنظيم لوقف هروب الناس من مناطقهم. دفنوا ابنهم ذي العشر سنوات في أرض غريبة ومضوا. «دفناه شمال دير حافر بأرض رمضان الموسى»، هكذا تردد أمه بشكل مستمر خشية أن تنام يوماً وتنسى أين دفنوه قبل أن يتابعوا المسير شمالاً.

وصلوا مدينة إعزاز مع وصول عاصفة ثلجية ساهمت في اكتمال المشهد التراجيدي، وتعقيد اللحظة المأساوية التي عرفوا فيها أن آخر رحلتهم الطويلة أبواب موصدة، وأن كل ما سعوا خلفه لم يكن إلا سراباً. يجلس أبو أحمد في المخيم، متمنياً أنه لم يولد حتى ليعيش هذه الأيام.

في زيارة أخرى لمخيم الشبيبة قابلت الشاب مهند، القادم للتو من ريف مدينة منبج، بعد هروبه من مناطق سيطرة تنظيم الدولة. مهند لم ينطق بحرف واحد، بل اكتفى بتحريك عينيه إلى كل الاتجاهات، وهو يرتجف كالمحموم، بينما تمسك يده اليمنى باليسرى كأنما يخشى أن يسلبها أحد منه. قال أصدقاؤه إنه يخشى أن ينزل عليهم الدواعش من السماء ليقصوا رأسه، لأنه هرب من مناطق سيطرتهم، ولا يستطيع أي أحد أن يقنعه بأنهم بعيدون جداً ليؤذوه. حتى أنه يظن كل من لا يعرفه أحد عناصر التنظيم المتخفين لحين اللحظة المناسبة. يهذي على الدوام بأسماء الأمراء والعناصر الذين يعرفهم في منطقته. كان هذا نهاره، فكيف تكون يا ترى لياليه، وكيف تكون كوابيسه؟

لعل علماء النفس لديهم عمل كثير لفهم السوريين بعد كل هذه الأهوال. فلكل سوري قصته ومأساته الخاصة.

أما منى فلدى استفساري عن سبب فعلتها مع أبيها أجابت بأنها «تحبه» أي زوجها، لم أتوقع إجابة أكثر إقناعاً من هذه الكلمة. وكما الأساطير كان على قصة منى أن تنتهي بخبر جهدتُ كثيراً للتأكد منه. المرأة العاقر التي اشترت الطفل حملت بشكل مفاجئ بعد أن أعادت الطفل لأمه.