غرفةٌ تطلّ على الحرب... عشرة أيامٍ في سوريا الجيش الحرّ

لم تغب عن ذاكرة الكثير من الثوار حادثة مقتل الصحفيَّين، المراسلة الحربية الأمريكية ماري كولفان والمصوّر الفرنسيّ ريمي أوشليك، إثر قصف قوّات النظام المركز الإعلاميّ لحيّ باب عمرو الحمصيّ الشهير. وقعت تلك الحادثة صباح 22 شباط 2012. الصحافية الفرنسية إيديت بوفييه كانت هناك أيضاً، وأصيبت بفعل القصف الذي أودى بزميليها. وهي تسجّل شهادتها في هذا الكتاب الذي ظهر بالفرنسية في أواخر 2012، وبالعربية عام 2014، ضمن سلسلة «شهادات سورية» (8) التي أصدرها بيت المواطن للنشر والتوزيع.  كانت بوفييه قد وصلت للتوّ. وبدلاً من أن تقضي وقتها في التنقل النشط كمراسلةٍ كانت قد أصيبت فوراً وتعيّن إخراجها إلى خارج البلاد لإجراء عمليةٍ لم تكن في إمكان أطباء المشفى الميدانيّ بتجهيزاته المتواضعة. ولكن الأيام التي قضتها بانتظار الخروج، وفي الطريق إليه، كانت كافيةً لرسم صورةٍ غنيةٍ عن الثورة وقتها، ولا سيما في محافظة حمص. إذ كان قد سبق لموفدة لوفيغارو أن دخلت إلى سورية في كانون الأول السابق، ولكن إلى ريف إدلب، حيث تشكلت أولى مجموعات الجيش الحرّ لمقاومة العدوان المستمرّ لقوّات النظام، فعبرت بوفييه الحدود من تركيا لترصد بواكير هذا التشكل. كانت التجربة مخيفةً بالتأكيد، ولكنها لا تقارن بتجربتها الآن في حمص، مكسورة الساق تبحث عن طريقٍ للعودة إلى الحدود اللبنانية دون أن تقع في يد النظام الذي كان قد قيّد عمل مراسلي وسائل الإعلام العالمية في البلاد، واعتبر دخولهم بصحبة الثوار عملاً غير قانونيّ. وبالمقابل كان المواطنون الصحفيون والمقاتلون السوريون، بالإضافة إلى سكان المناطق التي وقعت تحت قصف النظام، يخاطرون بأرواحهم ويقدّمون كلّ ما يلزم لتسهيل عمل هؤلاء المراسلين، أملاً في أن تغيّر تقاريرهم من مواقف دول العالم وتدفعها إلى وقف المجزرة. تقول بوفييه في مقدّمة كتابها إنها كتبته «كي لا أسمع أحداً يقول: لم نكن نعلم. كي لا تُنسى أولئك النسوة، أولئك الأطفال وأولئك الرجال، الشباب والشيوخ، المتمرّدين، الشجعان، تلك الإنسانية المهانة والمذبوحة، أولئك المجهولين الذين مدّوا لنا أيديهم وآوونا مخاطرين بحياتهم، وابتسموا، وشرحوا تاريخهم، من أين أتوا ولماذا يناضلون. أولئك الرجال والنساء، الفقراء غالباً، الذين لا يقاتلون من أجل المال والجاه، بل من أجل الحرّية، هذا الأمل الذي لا يمكن تدميره، وسط الفوضى، في مستقبلٍ أفضل». تروي الصحافية الفرنسية ملحمة طريقها المحفوف بالمخاطر، وأبطاله المتعدّدين المجهولين، يمشي بها كلٌّ منهم في المساحة التي يتقن التحرّك فيها ويسلمها لاستضافة عائلةٍ أخرى ومقاتلين جدد. كما تروي ما فعله النظام عندما شاع على وسائل الإعلام الغربية خبر مقتل زميليها وبقائها تحت الخطر، بصحبة ثلاثة زملاءٍ أجانب آخرين. فقد أشاعت قنواته أن الصحفيين مختطفون لدى «العصابات الإرهابية»، مما دفع الناشطين إلى الطلب من ضيوفهم تسجيل شريطٍ ليبث على قناة فرانس 24 الإخبارية، يقولون فيه إنهم ليسوا محتجزين لدى الجيش السوريّ الحرّ، وإن جيش النظام هو من يقصف عليهم وعلى سكان الحيّ. سجّل المراسلون الشريط وطالبوا بإيقاف القصف وبإقامة ممرٍّ إنسانيٍّ يخليهم مع جميع الجرحى والأسر القابعة في المخابئ المرتجلة. وبعد ضغوطٍ من أعلى المستويات على النظام لإرسال قافلةٍ من الصليب الأحمر الدوليّ قدمت قافلة الهلال الأحمر العربيّ السوريّ إلى الحيّ لنقل الصحفيين فقط. وقال لهم رئيس الهلال: «إن صعدتم إلى السيارة معنا سيكون عليكم أن تتناقشوا مع السلطات في دمشق، سيكون عليكم أن تفسّروا أسباب دخولكم غير القانونيّ للأراضي السورية». يشكّ الصحفيون في نوايا المنظمة المحلية الممسوكة بقوّةٍ من السلطات، ويرفضون التحرّك إلا بصحبة ممثلٍ عن  المنظمة الدولية الأم، فتغادر سيارات الهلال المنطقة مع وعدٍ بترتيب الأمر مع مسؤولة الصليب الأحمر والعودة بصحبتها. ولكن في الحقيقة، وبدلاً من النجدة، القنابل هي التي تعود، وبإلحاحٍ ودقةٍ أكثر. كان المطلقون يعرفون الآن مكان المشفى الميدانيّ، كما لو أن فرق الهلال قد أعطتهم الإحداثيات! وأثناء المماطلات المعهودة للنظام، وزعمه أنه يحاول إخراج المراسلين، كان قد وعد مجموعةً من أربعين عسكرياً من الفرقة الرابعة، المكلفة بالهجوم على بابا عمرو، بمليون دولارٍ مقابل القضاء عليهم، في عمليةٍ أسماها «مطاردة الكلاب»، كما أفاد أحد المنشقين لاحقاً!