دروب ما بعد المعتقل... تقريرٌ حقوقيّ

  لا تتوقف معاناة تجربة السجن السياسيّ بمجرد الإفراج عن المعتقل، بل تمتدّ لتطال حياته ومستقبله. ولهذا خصّص معدّا هذا التقرير، الناشطة الحقوقية رزان زيتونة والدكتور حسام السعد، جهدهما هنا للحديث عن معاناة معتقلي الرأي في سوريا بعد الإفراج عنهم، معتمدين بشكلٍ أساسيٍّ على شهادات السجناء السابقين، للاطلاع على الآثار التي خلّفتها هذه التجربة، على المستويين الاجتماعيّ والنفسيّ.

وإذا كانت سورية تحت حكم البعث قد غدت مسرحاً لانتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقوق الإنسان، فإن ظاهرة الاعتقال السياسيّ فيها أخذت تنحو منحىً ممنهجاً ومنتظماً مع مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي. وهي المرحلة التي ينتمي إليها من قابلهم معدّا هذا التقرير الصادر في 2006.
إذ تقدّر الأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية عدد من جرى اعتقالهم، بدءاً من أواخر السبعينيات إلى نهاية الثمانينيات، بعشرات الآلاف. آخذين في الاعتبار الأعداد الكبيرة لمن تعرّضوا للاختفاء القسريّ، وانقطعت أخبارهم نهائياً عن ذويهم، والذين تقدّر المنظمات الحقوقية أعدادهم بـ17 ألف مفقود.
وقد تمحورت أسئلة المقابلات حول نقاط: القبول الأسريّ (الوالدين، الإخوة، الزوجة، الأولاد)؛ القبول الاجتماعيّ (الأقارب، الأصدقاء، الحيّ)؛ اختلاف القيم وأثرها في الاندماج الاجتماعيّ للسجين السابق؛ تقييم التجربة، سلباً وإيجاباً، وأثره في تجاوزها؛ تأثير التجربة في الطباع الشخصية والتعاطي مع المحيط.
وقد لاحظ الباحثان أن وجود جوٍّ من القبول الأسريّ لضرورة العمل السياسيّ، أو لحقّ الفرد داخل الأسرة باختيار توجهاته السياسية، أسهم إلى حدٍّ كبيرٍ في التعامل مع تجربة السجن كعامل دفعٍ وتحدٍّ لا عامل إحباط. فالتقدير الأسريّ والعائليّ لتجربة السجين يزيل الكثير من المعوقات الحياتية أمامه. وقد أسهمت بعض الأسر في ترسيخ جدّية وإيجابية التجربة، وكذلك في تجنيب السجين الإرباكات الاقتصادية المعيشية أثناء الاعتقال، وفي المراحل الأولى بعد خروجه. بخلاف التجارب التي أسهم فيها اللوم والعتاب وسوء التقدير في تكريس مشكلاتٍ حقيقيةٍ في العلاقة الأسرية.
ويزداد الأمر صعوبةً بوجود الأطفال الذين كبروا أثناء وجود المعتقل في السجن. فغياب الأهل عن مراحل مهمةٍ من حياة وتربية أبنائهم يخلق أزماتٍ واضحةً في العلاقة بين الطرفين. وهو أمرٌ يبدو تجاوزه صعباً في بداية العلاقة المستأنفة بين الآباء، بعد خروجهم من السجن، وبين الأبناء.
أما من الناحية الاجتماعية فيعاني الخارج من المعتقل من إشكالية اندماجٍ، تبدو سياسات السجن وآليات عملها هي المسؤولة عنها بالدرجة الأولى. ففي السجن يتشكّل مجتمعٌ صغيرٌ وضيق، يختلف عن المجتمع في الخارج. وتحكم هذا المجتمع ثقافةٌ ومعايير تتمركز حول الشعور بالظلم والغبن والنزوع إلى العنف. وتتشكل قواعد رئيسةٌ وخطوطٌ عامةٌ داخل السجن، من المحتمل مواجهة صعوبةٍ كبيرةٍ في تجاوزها بعد الخروج، لا سيما بعد جهودٍ كبيرةٍ عاناها السجناء للتكيّف مع وضعهم. وبهذا يجد السجين السابق نفسه مضطرّاً إلى إعادة إنتاج وخلق آليات تمكّنه من التعاطي مع العالم الخارجيّ، لأن هذه المشكلة هي مشكلته، حسب المعايير المجتمعية.
واختلف التأثير على الطباع والعادات الشخصية من سجينٍ لآخر، وبحسب ظروف السجن وطول مدّة الاعتقال أو قصرها. ففين حال قال المعظم إن طباعهم تغيَرت نحو الأفضل، باكتساب الهدوء والتروّي، وهذا طبعاً بسبب التحكم بالأمزجة والطباع الحادّة التي من شأنها أن تسبّب العقوبة داخل السجن؛ فقد اعترف البعض الآخر أن طباعاً سيئة تملّكتهم بسبب السجن، منها سرعة الغضب والمزاجية وسرعة الملل والتعامل بشكل حدّيٍّ مع الآخرين، في كثيرٍ من الأحيان.
أما اقتصادياً فقد لعبت عودة السجين إلى عمله السابق، أو إيجاد عملٍ جديدٍ مستقرٍّ، دوراً هاماً في الانخراط في المجتمع، وبدء تجاوز آثار السجن، ووضع تجربته في سياقها الإيجابيّ. وقد تحقق هذا بسهولةٍ لدى البعض، ولا سيما في أعمال القطاع الخاصّ. أما من كان موظفاً حكومياً قبل اعتقاله، فقد خضع لقرار الأجهزة الأمنية بعودته إلى عمله من عدمها. ولم توجد قاعدةٌ محدّدةٌ في هذا الإطار.
وقد عجزت منظمات المجتمع المدنيّ، حديثة النشأة في سوريا، عن تقديم مساعدةٍ ملموسةٍ للمفرج عنهم. أما المنظمات الدولية، فقد قدّمت مساعداتٍ محدودةً لعددٍ قليلٍ جداً من المعتقلين السابقين، تمثلت أساساً بمنحٍ لتلقي العلاج في الحالات الصحية الصعبة.