درعا بين مطرقة الاقتتال وسندان المصالحات

لم تعد تُسمع أصوات الرشقات الخارجة من بنادق أبطال درعا معلنةً الفرح بتحرير حاجزٍ أو قطعةٍ عسكريةٍ من قوات النظام، ولم تعد النساء تخرج إلى الشرفات حاملاتٍ الأرز وقطعاً من السكاكر لينثرنها فوق رؤوس أولئك القادمين، بل أصبحت الرشقات المخيفة دلالةً -في معظمها- على اشتباكٍ محليّ.

أجواءٌ مختلفةٌ تعيشها محافظة درعا في العام السادس للثورة التي انطلقت منها شرارتها الأولى، وسطرت فيها العديد من الانتصارات والبطولات التي كان أبرزها تحرير اللواء 61 الذي يعدّ أكبر الألوية في سورية، والذي يحوي تل الجابية الإستراتيجيّ، وتمّت السيطرة عليه خلال أقلّ من اثنتي عشرة ساعة، وكتبت الصحف العالمية وقتها عن قوّة المعارضة وحنكتها في تحريره. وكان آخر تلك الانتصارات تحرير اللواء 52 مدرّعات. ولم تشهد درعا بعد ذلك أيّ نصر، بل كان الحدث الأكبر مؤخراً خسارة قوات المعارضة لأكبر نقطةٍ استراتيجية في المنطقة وهي مدينة الشيخ مسكين بعد معارك عنيفةٍ مع قوات النظام والميليشيات المساندة له، وبالمشاركة الأولى لسلاح الجو الروسيّ. وفي غضون ذلك سيطرت قوات النظام على بلدة عتمان أيضاً.

ورافقت ذلك عدّة انكساراتٍ شهدتها الجبهة الجنوبية كان أبرزها إعلان حركة المثنى الإسلامية، التي كان لها التأثير الأقوى في تحرير العديد من النقاط والمناطق الإستراتيجية، مبايعتها تنظيم الدولة الإسلامية، متحدةً ضمن جيشٍ واحدٍ مع لواء شهداء اليرموك، المبايع الآخر للتنظيم، باسم جيش خالد بن الوليد. وحدثت إثر ذلك معارك عنيفةٌ بين فصائل الجبهة الجنوبية والفصائل المبايعة للتنظيم، فقدت محافظة درعا خلالها صفوة مقاتليها على تلك الجبهات التي استنزفت أكبر الفصائل العاملة في الجبهة الجنوبية، فضلاً عما خلفه هذا الاقتتال الداخليّ من توترٍ وسوءٍ في الأوضاع الأمنية، حتى شهدت المحافظة العديد من الاغتيالات التي استهدفت كبار القيادات، بالإضافة إلى عمليات السطو والسرقة التي سُجّلت معظمها ضد مجهول.

وفي الوقت نفسه استغلت قوات النظام هدوء جبهاتها وانشغال الفصائل بالاقتتال لمحاولة إرسال رسائل إلى بعض القرى والبلدات تدّعي فيها نيتها الصلح والعفو عن أيّ مطلوبين، تبتغي من ذلك تسجيل نصرٍ إعلاميٍّ من جهة، ولتزيد الفرقة بين أبناء المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة من جهةٍ أخرى. وكان آخر تلك المحاولات ما شهدته بلدة موثبين بحضور وفودٍ من مدينة الصنمين وإزرع وغباب ودرعا المحطة، وبوجود مفتي الأسد أحمد حسون، ولكن سرعان ما انتهت تلك الاجتماعات بعد أن استهدفتها قوات المعارضة. ومع رفض العديد من المدن والبلدات المصالحات عمدت قوات النظام إلى استهداف تلك المناطق بشتى أنواع الأسلحة، كما حدث في مدينة جاسم بعد إصدارها بياناً تعلن فيه رفضها أيّ مصالحةٍ مع النظام، فتمّ استهدافها بغارتين حربيتين طالتا المشفى الميدانيّ الوحيد في المدينة، وراح ضحيتهما تسعة قتلى وعددٌ كبيرٌ من الجرحى.

وعن الحال التي وصلت إليها المحافظة يؤكد الناشط الإعلاميّ أيهم الحوراني لـ«عين المدينة»: «على الرغم من الواقع الصعب الذي تعيشه محافظة درعا، من اقتتالٍ بين الفصائل والاضطرابات الأمنية الكبيرة؛ تبقى الحاضنة الشعبية للثورة هي الأقوى. لم يتقبل أحدٌ فكرة المصالحة مع النظام، وذلك لمعرفتهم التامة بغدره. وإن وجد بعض الأشخاص ممن يخالفون ذلك، سواء أكانوا مدنيين أم عسكريين، فهؤلاء مزروعون من قبل قوات النظام ليزيد من التفرقة الحاصلة ولإضعاف الروح المعنوية».

من الملاحظ أن الغالبية العظمى لأهالي المحافظة ضدّ المصالحة جملةً وتفصيلاً، ولكن، في الوقت نفسه، وُجد أشخاصٌ دفعتهم الظروف الصعبة إلى «تسوية وضعٍ» مع النظام. فمنهم المصابون بأمراضٍ مزمنةٍ وصعُب عليهم العلاج ضمن المناطق المحرّرة فاضطروا إلى التداوي في مناطق سيطرة النظام في ظلّ استمرار دول الجوار في إغلاق معابرها، ومنهم موظفون لا زالوا على رأس عملهم في المؤسّسات المدنية للدولة ولا يملكون مصدر دخلٍ آخر، ومنهم أيضاً أشخاصٌ لديهم معتقلون أو معتقلاتٌ في سجون النظام أقدموا على المصالحة علها تكون -بنظرهم- سبيل الإفراج عن ذويهم. ولكن معظم الذين ذهبوا عادوا وأقرّوا بأن تلك المصالحات هي مصالحاتٌ شكليةٌ وليست أكثر من وعودٍ برّاقة.

ومن جهته أكد أبو غازي، القاضي الشرعي بمحكمة دار العدل، لـ«عين المدينة» أن: «محكمة دار العدل، والتي تعتبر الجسم الأساسيّ لمحافظة درعا، ترفض رفضاً قطعياً عقد أيّ مصالحاتٍ مع النظام، مما يعتبر خيانةً لدم الشهداء وللثورة بشكلٍ عام. وفي الوقت نفسه لا يصحّ الانفراد بعقد مصالحاتٍ مع النظام دون تنسيقٍ مع الجانب العسكريّ والثوريّ في كل المناطق».

سيناريوهاتٌ عديدةٌ تشهدها محافظة درعا. فهل ستفتح معركة «قادسية الجنوب»، التي انطلقت مؤخراً، باب العودة إلى أيام الانتصارات؟