تحولات التلفاز في الحسكة

تعبيرية من الإنترنت

لم يعد التلفاز كما كان عليه في حقب سابقة: صندوقاً غريباً يتجمع حوله أهل القرية أو الحي، ثم مؤشراً على الحالة الاجتماعية، فرفيقاً لاجتماع العائلة وصديق السهرة؛ طرأ عليه اليوم العديد من التغيرات، في ظل انتشار الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي للتسلية والاطلاع ومعرفة الأخبار. ووسط العدد غير المحدود من القنوات الفضائية، ما يزال الكثير من أهالي الحسكة يحافظون على متابعة القنوات التي اعتادوا عليها قبل عقد من الآن، أو التي تعرض مسلسلات درامية سورية كقناة "سوريا دراما" الحكومية أو قناة "سما الخاصة"، إلى جانب قنوات أخبارية مثل الجزيرة في حالة الرجال الأكبر سناً.

حالة الانقسام الحاصلة في المجتمع الحسكاوي يمكن ملاحظتها في اختلاف القنوات التي يتابعها جمهور كل الفرقاء. ومن خلال الحديث مع مصادر أهلية متنوعة، يمكن مع بعض التعسف إطلاق تعميمات بأن مؤيدي النظام الذي يسيطر على مركز مدينتي الحسكة والقامشلي وبعض القطع العسكرية، ما زالت قنوات النظام مفضلة لغالبيتهم، خاصة في ما يتعلق بالأخبار. بينما يتابع مؤيدو "الإدارة الذاتية" قنوات أطلقتها الأخيرة منذ سيطرتها على المنطقة؛ في العام 2012 قناة "روناهي" الناطقة باللغة الكردية من مدينة القامشلي، ثم قناة "اليوم" الناطقة بالعربية و"روج أفا" الناطقة بالكردية من مدينة عامودا في العام 2017. أما الأكراد المعارضون للإدارة فيتابعون القنوات الكردية الأخرى، وتأتي قناة "رووداو" التي تبث من أربيل في شمال العراق على رأس قائمتها.

وفرت وسائل التواصل الاجتماعي للشباب الأصغر سناً انفتاحاً ببعدين، عالمي ومحلي يربط المتشابهين بالاهتمام دون اعتبار للمسافة والحدود، ما يجعلها أكثر قرباً من الشباب في الحسكة الذين ارتبطت نشأتهم بالتنوع في العصر الحديث. يقول أحمد (23 عاماً طالب في جامعة الفرات بالحسكة) أن التلفاز يرتبط لديه باجتماع الرفاق في المقهى لمتابعة مباريات كرة القدم، ويتابع "نادراً ما أشاهد التلفاز في المنزل، ولكن والديّ هما الأكثر متابعة. والدتي حتى الآن تشاهد المسلسلات السورية والأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود".

لم يعد مستغرباً في الحسكة وجود بيوت دون تلفاز، إما لقلة استخدامه أو الاعتماد على بدائل حديثة مثل الجوال والكمبيوتر سواء المحمول أو المكتبي، أو بسبب الضائقة الاقتصادية وحالة النزوح التي يعيش تحت وطأتها قسم من الأهالي في الحسكة وقد فقدوا ممتلكاتهم مع مغادرة المنازل.

السيدة سميرة (48 عاماً متزوجة ولديها أربعة أولاد) تقيم في مدينة الحسكة بعد نزوحها من رأس العين نهاية 2019، تقول أنها لم تشترِ تلفازاً جديداً بعد النزوح لعدم الحاجة إليه، وتضيف "جميع أولادي لديهم جوالات، ولم نعد نهتم بالأخبار فهي مكررة منذ أكثر من عشر سنوات".

يوضح سيف (33 عاماً يملك محل عطارة في مدينة الحسكة) أن جل وقته الذي يقضيه بين العمل والأسرة يعتمد على متابعة فيسبوك. يقول "الفيسبوك لم يترك شيئاً. حتى الأطفال لم تعد ترغب بمشاهدة التلفاز في ظل وجود الجوالات والايبادات".

لم يمنع ذلك من انتشار اقتناء الشاشات الحديثة لدى الكثير من أهالي الحسكة، لكنها لم تعد تعني ما كان يعنيه التلفاز قبل عقد من الآن وأكثر، وقتها كان يمكن اعتبار التلفاز جزءاً من تكوين الأسرة أو فرداً من أفرادها، بينما يرتبط اليوم بشعور الحنين إلى الماضي، أو بتقليدٍ موروث في تأثيث المنزل وليس بغرض الاعتماد على استخدامه بشكل أساسي.

يرتبط الحديث عن التلفاز بالحسكة بمحاولة تحديد تاريخ وصول "أول تلفاز" إلى المحافظة، لكن تبقى الحقيقة الوحيدة التي يمكن تصديقها هي أن التلفاز بدأ في الانتشار منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أي بعد تركيب أول محطة بث تلفزيوني في المحافظة. اقتصر وقتها شراء التلفاز على العوائل الميسورة، كما لم يكن هناك محلات لبيع التلفاز في الحسكة، ويضطر من يريد شراءه إلى الذهاب غرباً باتجاه مدينة حلب أو جنوباً باتجاه مدينة دير الزور.

نظر الناس في البداية إلى هذا "الشي الجديد" الذي أخذ بالانتشار نظرة استغراب ودهشة واحترام، ولاحقاً تفاعلوا معه بحس مرهف خصوصاً مع المسلسلات البدوية، الأمر الذي كان يصل إلى حد الحزن والبكاء إذا أصاب بطل المسلسل مكروه. هذا ما ترويه الحاجة أم محمد وهي سيدة سبعينية من إحدى قرى شمالي الحسكة، وصلها التلفاز سنة 1974 وكانت قد عاصرت تلك الفترة. تقول "عندما مات رماح في مسلسل رأس غليص الذي عرض في السبعينات، حزن كل أهل القرية كما لو أنه أحد أبنائها".

اقتصر البث في تلك الفترة على الوقت من الساعة 5 عصراً إلى الساعة 13 ليلاً بقناة واحدة فقط. في هذه الساعات يبدأ اجتماع أهالي القرية أو الحارة لمشاهدة "الصندوق" كما سماه بعض أهالي القرية والقرى المجاورة كما تخبرنا أم محمد.

مع بداية الثمانينات بدأت الهوائيات فوق أسطح المنازل تلتقط إشارات بث القنوات العراقية الأرضية التي تابع أبناء المحافظة برامجها القريبة من مجتمعهم العشائري، ولكن سرعان ما منعت، وصارت تهمة الانتماء إلى البعث اليميني شبحاً يحول بين مشاهدة القنوات العراقية والناس حتى بالسر، في ظل نيل تلك القنوات من حافظ الأسد شخصياً.

بقي الحال حتى إطلاق القناة السورية الثانية عام 1985 التي قدمت محتوى باللغة الفرنسية والإنكليزية، واستقطبت فئات متعلمة بهدف "تقوية اللغة". يقول ياسر "55 عاماً" أنه كان يشاهد القناة الثانية لتقوية لغته الإنكليزية ولكن دون فائدة، يضيف "كنت أشاهد المسلسلات عليها خلسة لوجود مشاهد كانت تعتبر جريئة في تلك الفترة".

بالتزامن وصل بث العديد من القنوات الأرضية التركية إلى البلدات والمدن الشمالية في المحافظة. ورغم العجز عن فهم اللغة، انتشرت الأغاني والأفلام التركية كنوع من التنويع ومعرفة ثقافة بلد مجاور. تقول سهام (41 عاماً مدرسة في مدينة القامشلي): "حفظنا وقتها الكثير من الأغاني خاصة لإبراهيم تاتليس، وشاهدنا أفلاماً كثيرة للممثل جنيد أركين"

ومع انتشار الستالايت "الصحن" وإطلاق الفضائية السورية، بدأت الحسكة بالتعرف على تنوع القنوات نهاية التسعينات، مع سيطرة لقناة الجزيرة بالاتجاه المعاكس وmbc بمن سيربح المليون على المشاهدين، ليفرج بذلك عن الأهالي من سجن القناتين السورية الأولى والثانية "إجباري واحد وإجباري اثنين" كما يدعوها الكثيرون.