تبلد وجداني .. حين يصبح البشر في دمشق صناديق سوداء

Rivka Korfاللوحة ل

"أنا من حلب بالأصل، ولدت في دمشق وعشت فيها كل عمري، لم تسمح ظروفي بزيارتها قبل الثورة ولا خلالها، لست متأكدة إن كنت أستطيع حالياً". هكذا بدأت ميرنا حديثها عن الاكتئاب الحاد الذي أصابها وطرحها لأشهر في الفراش، ميرنا في السادسة والثلاثين من عمرها تعمل في مجال المونتاج، وشاركت كمونتير في عدد من الأفلام الوثائقية، التي توثق لمراحل مختلفة من عمر الثورة، بعض تلك الأفلام لم ير الشمس، إما لأسباب مادية أو أمنية.

عمل ميرنا ينتهي بانتهاء المونتاج، حيث تبقى حقوق النشر للمخرج، اعتادت ميرنا عملها، أو هكذا اعتقدت، "كنت عم اشتغل على فيلم من حلب، بمرحلة معينة حتى المجازر ما عادت أثرت فيني، كنت آكل واشرب وأنا عم اشتغل، وكأني عم احضّر فيلم عادي". لكن ذلك الفيلم لم ينته إلا وهي مصابة بانهيار عصبي، لأن الفيلم يوثق للسنوات الأربع الأولى من عمر الثورة في حلب، حيث الكاميرا تتابع مجموعة من الشباب الذين تطوعوا للعمل في المجال الطبي، وكان عليها كمونتير أن تشاهد كل الفيديوهات المصورة وهي بالساعات، بعضها كان احتفالياً سعيداً، والبعض كان لمجازر. "في مجازر ما بقدر انساها وبحس بالذنب إني لساتني عايشة".

ميرنا عاشت مع شخصيات الفيلم حتى صاروا جزءاً من حياتها، أناس لا تعرفهم في الحقيقة إلا خلف شاشة الكومبيوتر، ركزت على مهمتها الأساسية وأنهتها بأفضل طريقة ممكنة، مات الشباب على مدى السنوات الأربع، الواحد تلو الآخر، "أحياناً بكون ماشية بالشارع، وبشبه على واحد منهم بعدين بتذكر انو مات". انتهى عمل ميرنا على الفيلم قبل سقوط حلب بفترة قصيرة، وكانت تلك كما تقول القشة التي قسمت ظهر البعير، إذ تورطت في عملها حتى سقطت مصابة باكتئاب حاد مع سقوط حلب، لا تعرف كم من الوقت تحتاج لتشفى منه، "في حزن عميق جواتي بيخلق فجأة، وبعجز حتى إني ابكي".

ثائر طبيب نفسي من حمص يعيش في دمشق، تأتي محاولته الغريبة لتعلم العزف على الربابة ذات الوتر الواحد، كمحاولة للحفاظ على رشده بعد ثماني سنوات قضاها بين ابن سينا نهاراً وعيادته مساءً، حياته تسير على إيقاع الختم الخاص به، ورنين هاتفه الذي لا يتوقف، "أنا شخصياً مصاب بالاكتئاب وبتعالج. ضمن عملي بسمع قصص ما فيني أنأى بنفسي عنها بغض النظر عن المهنية". لم أرَ يوماً ذاك الصندوق الأسود الخاص بالطائرات، والذي يكثر الحديث عنه بعد سقوط الطائرة، يبدو الدكتور ثائر والعاملون في هذا المجال أو مجالات مشابهة، كتلك الصناديق السوداء، ولا أحد على يقين متى ستقع تلك الطائرة، وإن كنا سنعثر على ذلك الصندوق أم لا، "ما في دوا ممكن أعطيه لمريضة فقدت تلاتة من ولادها، شو ممكن أعطيها.. مضاد اكتئاب؟!"

 ريم مدرّسة رياضيات كانت تعيش في جديدة عرطوز في بداية الثورة، قبل أن تنتقل لتعيش في دويلعة، تتحدث عن مجزرة حدثت هناك قرب منزلها. "جمعوا الشباب ببيت وحرقوهن، ضلت ريحة اللحم المشوي فايحة يومين". لم تعد ريم تحتمل رائحة الشواء وصارت نباتية، تهرب من أمام المحلات والبسطات التي تعرض اللحم المشوي، "نفدت أنا وزوجي وبنتي بأعجوبة، وهي خانة زوجي اللي من الصالحية بالشام، وتركونا نعيش". ابنة ريم كانت طفلة صغيرة لا تذكر ما حصل، وقد قرر الوالدان ألا ينجبا طفلاً آخر في هذا البلد.

تشعر ريم بالاختناق كلما تحدثت عن الأمر، وتصف الأمر بأن الرائحة سكنت روحها. "اللي راح ما بقا يرجع واللي خرب ما بقا يتصلح، وشو ما كانت النتيجة، الخسارة أكبر بكتير". تتفاءل ريم بالعدالة الإلهة، أما بالنسبة إلى عملها مع جيل ترعرع مع العنف، فتؤمن بأن مصيره الضياع وأن ما ينتظره من مستقبل غير مبشّر، خصوصاً وأن معظمهم خسر فرداً أو أكثر من عائلته، واعتاد العنف والموت والقلق وكأن ذلك هو النمط الطبيعي للحياة.