النازحون في مواجهة برد الشتاء

لم يكن ينقص السوريين سوى العاصفة ألكسا كي تزاحم قذائف الهاون والصواريخ وقصف الطيران في حصد أرواحهم وتهديد معيشتهم المريرة. ولعل أكثر شرائح المجتمع السوري تأثراً بهذه العاصفة هم النازحون في المناطق المحرّرة، الذين تقطّعت السبل بغالبيتهم إلى أن فُتحت لهم المدارس، علّها تقيهم حرّ الصيف وبرد الشتاء. ولم يكن حال النازحين في مدينة الميادين أفضل من حال غيرهم في باقي المناطق، فالبرد القارس بدأ عمله بحصد أرواح من عجزت قذائف الأسد عن قتله.

 

حين تصبح المدافئ حلماً

"عين المدينة" زارت مدارس النزوح واطّلعت على أحوال النازحين، فاستقبلنا الأطفال الذين كانوا يتدفأون على بضعة أوراقٍ من أرشيف طلابٍ سبقوهم إلى الجلوس في تلك الغرف، وجاءوا إلينا مسرعين، مستبشرين بأي شيءٍ قد يساعدهم في التخفيف من البرد الذي تغلغل في أجسادهم. سألنا الطفل صلاح المحمود، ابن مدينة حمص والنازح في الميادين، عن وضعه في ظلّ البرد الشديد فأجابنا: "والله البرد قتلنا وما حدا عم يتطّلّع علينا. نحن لسنا في مدارس للنازحين، نحن في مدارس للموت البطيء". أذهلنا كلام ذلك الطفل البريء. وعند خروجنا من مدرسة الموت البطيء، كما وصفها صلاح، سألناه إن كان يحتاج إلى شيءٍ فقال: "ادعوا الله لنا أن يحمينا من البرد".
أما أم هاني، وهي نازحةٌ من مدينة دير الزور، فلم نأخذ منها كلاماً كثيراً، بسبب دموعها التي غالبت كلماتها. لكن ما استطعنا تبيّنه وسط تلك الدموع هو قولها: "ليس لدينا أي شيءٍ نتدفّأ منه سوى تلك الكتب وبعض الأحطاب من أشجار المدرسة. منذ أكثر من سنة ونصف لا نعرف شيئاً اسمه مدفأة، في حين تأتي المنظمات وتسجل أسماءنا وترحل بلا عودة".

 

عدد المنظــــمات أكثــــر مــن عـــدد النازحين!!!

بقي كلام أم هاني في أذهاننا عندما قالت: "إن المنظمات تأتي وتسجّل أسماءنا وترحل"، حين لاحظنا تسابق المنظمات لإعداد الإحصائيات وبثها على مواقعها الالكترونية، دون تقديم أي شيءٍ لأم هاني أو لصلاح يقيهم من بردٍ أصبح عدواً أول لهم. فحتى اللحظة لم تقم أيّ منظمةٍ بتقديم ما يحتاجه النازحون للوقاية من البرد، فلم يحصلوا على أغطيةٍ أو مدافئ أو ألبسةٍ شتويةٍ تقيهم شرّ العاصفة ألكسا. ويتساءل بعضهم: في أي مكانٍ تم توزيع تلك المدافئ التي شاهدناها على التلفزيون؟
وما يثير الاستغراب هو تباكي العديد من الناشطين في العمل الإغاثي على حالة النازحين، وشكواهم من شحّ الإعانات، بينما لم يقوموا بمبادراتٍ بسيطةٍ كجمع الثياب القديمة وغيرها من المقتدرين وتوزيعها على النازحين، وهي عمليةٌ لا تحتاج سوى لصحوة الضمير.

 

صرخة ألمٍ من قلب نازح

أثناء جولتنا في مدارس النازحين سمعنا من أحدهم أن هناك حالتي وفاةٍ سُجلتا جرّاء البرد، فتوجهنا نبحث في سجلات المشافي لنرى صدق الكلام من عدمه، فتأكدنا من وجود هاتين الحالتين؛ لطفلٍ في السابعة من عمره ولفتاةٍ في عقدها الثاني. وأكد أحد الأطباء في المشفى أنهما توفيا نتيجة الإصابة بنزلاتٍ صدريةٍ حادّةٍ سببها عدم تحمل أجسادهم للبرد القارس.
ويبقى على الطفل صلاح أن يبدأ نهاره بالوقوف على باب المدرسة، منتظراً منظماتٍ وعدته بغطاءٍ ولباسٍ يحميانه من ألكسا وأتباعها. فالنازحون العالقون بين مطرقة الحرب وبرد الشتاء، وقد عجزوا عن تأمين الدفء لأبنائهم الذين لامس البرد عظامهم قبل أن تلامس ألامهم ضمائر المتخاذلين عن مساعدتهم؛ أصبحوا اليوم يفتشون عن المدرسة التي تكثر فيها الكتب والمقاعد كي تكون وقوداً لمدافئهم البدائية، ويبحثون عن ضمائر، يأملون بأن تكون ما زالت حيّة، تأخذ بيدهم ليبقوا على قيد الحياة.