ثانوية الفرات - متداولة قديماً

عاشت دير الزور عقودها الخمسة الماضية في سياق مشابه وموازٍ لبقية المدن السورية، على مستوى العلاقة بين الاجتماع المتمايز للمدينة وريفها، وبين أنظمة التعليم التعبوية وشبه العسكرية، التي فرضتها أنظمة البعث المتلاحقة، وخصوصاً تحت حكم الأسدين الأب والابن.

وإن كانت الآليات المتبعة -رسمياً وعقائدياً- من قبل السلطة وأجهزة استخباراتها، متشابهة إلى حد بعيد في أنحاء سوريا، إلّا أنّ التمايز الاجتماعي بين محافظة وأخرى، وبين مدينة وأخرى، قاد إلى نتائج مغايرة، ولدير الزور حكايتها الخاصة هنا.

ولا بد من التوضيح هنا، أنّ المتن اللاحق ليس محاولة لإنشاء مقارنة بين دير الزور وغيرها، ولا هو بحث في تطورات العملية التعليمية – التجييشية في سوريا، بقدر ما هو سرد ذاتي لتجربة أحد أجيال المدينة في ما كان النظام يتمسك بتسميته "المدرسة السورية"، بينما تفضي التجارب الشخصية إلى قناعة كامنة بعدم وجود مثل هذه الخرافة، التي يسعى النظام الآن إلى إعادة نبشها، عبر إحياء تفاصيلها الحاكمة، مثل منظمات الشبيبة والطلائع، والتدريبات العسكرية، والمنهجية التعبوية؛ وإن كانت الطبعة الراهنة منها تستند إلى منطق ما بعد الثورة، وإلى قائمة العداوات والعزلة التي يعيشها نظام بشار الأسد، وطبعاً إلى مخارجه الإيرانية والروسية منها.

المقطع الأول: في انتظار الصاعقة

لا توجد في الموروث السوري حكاية شبيهة برواية (فرانكشتاين) الشهيرة، غير أنّ الواقع العياني لما يحدث هذه الأيام في دير الزور، يشير إلى أنّ إحياء المسوخ بات أحد أبرز أنشطة النظام في المدينة بعد إعادة السيطرة عليها.

تقوم حكاية فرانكشتاين الأصلية -وهي رواية شيّقة كتبتها الروائية البريطانية ماري شيلي، عام 1818، وحوّلتها هوليوود إلى عدّة أفلام رعب- على افتراض أنّ تجميع أشلاء بشعة لموتى، ثم ضربها بصاعقة سيعيدها إلى الحياة؛ ومع أن النتيجة في الرواية الأصلية كانت كارثية، فإنّها تلامس بصورة أو بأخرى مفهوم هوس إعادة الخلق والإحياء عند البشر، والواقع أنّ هذا الهوس لا يقتصر في الحالة السورية على معطى خيالي مرعب، بل هو إجراء عمدي يقوم به نظام بشار الأسد لإعادة إطلاق قواعد بنى عليها ما كان يعتقد أنها السيطرة الكاملة على أجيال متلاحقة من السوريين.

المسوخ التي يراد إعادة تخويف وتقطيع -من قطيع- الناس بها، في مدينة دفعت ثمن تمردها دماراً هائلاً، وهجراناً بشرياً أخواها من تسعة أعشار سكانها، هي ذاتها التي فشلت في تحويل نزعة الرفض الأصيلة إلى طاعة مستدامة، وهي نفسها التي تمزقت بسرعة مذهلة، بعد أيام فقط من أول مظاهرة في دير الزور، إبان بدايات الثورة السورية.

لكنّ نظام الأسد يفتقر كالعادة إلى قدرة التجديد وإنتاج المغاير وفهم الراهن، ثمّة عشق عتيق للجثث في ذهنية القائمين عليه، إنْ لناحية إنتاجها بقتل الخصوم، أو لناحية تقديس منتجاته الميتة من أفكار وآليات غير مجدية فعلاً. ولا يكفي انتظار صاعقة ما لتسري الحياة في بنىً ما كانت حية أصلاً، خصوصاً في ديرالزور؛ حيث لم تكن تلك المسوخ التعبوية العسكرتارية تعمل إلا كحدث سطحي، حتى بين القائمين عليها في المدينة قبل تدميرها.

المقطع الثاني: ول سقط كلاشي

يعرف الجيل الديري الأربعيني، الذي عاش طفولته في سبعينات التمكين البعثي العسكرتاري، ومراهقته في ثمانيات المذابح والاعتقالات، وشبابه في تسعينات التوريث- أنّ كل سردية المدرسة السورية تقوم على موازاة الحشو الفائض للمعلومات النظرية، لتعبئة فراغ انعدام الجانب العملي في المناهج، مع الحشو العقائدي السياسي والعسكري، الذي تتوالى عليه مسوخ منظمات الطلائع والشبيبة والفرق الحزبية وغيرها.

وهذا، وإن كان أمراً عاماً لا تختص به دير الزور وحدها، إلّا أنّها كانت من الأسرع في تركيب معادلة (التجاهل المتعمد المتبادل) بين القواعد والقيادات المحلية، إذ تحولت تلك الآليات التعبوية إلى مساحات أداء واجب فارغ، يفتقر إلى أيّ درجة من الحماسة، ونشأت أغراض أخرى، أكثر "اجتماعية" للاجتماعات والمسيرات التي لابد منها.

كانت المعادلة سهلة: لابد من المشاركة كي لا تتعرض لمساءلة أمنية، أو تواجه مصيراً مجهولاً بصفتك "حيادي سلبي"، وفق تقييمات الاستخبارات السرّية التي يعرفها الجميع؛ لكن في داخل هذه المشاركة "العفوية"، خلق الجيل الديري هذا إتاحات إضافية: فيمكن تحويل الأمر إلى فرصة للهروب من المدرسة عند "الكسلانين"، أو لحل "الوظايف" عند المجتهدين، أو لرؤية الحبيبات عند الطرفين، وربما هي فرصة للخروج، أو لتركيب مشهد كوميدي يستقر في ذاكرة المدينة، بصفته انتقاماً من آل الأسد ومسوخ البعث.

حتى أنّ أجهزة إعلام النظام كانت تعامل "مسيرات الدير" بحذر، لأنّها عادة ما تكون سريعة وفوضوية، وحافلة بالمفاجآت التي يدرك أهل الدير معناها السري في تندراتهم الملغزة، وهي بكل الأحوال رسالة ينقلها جيل شاب لايعرف حكماً غير نظام الأسد، إلى جيل يجلس في البيوت بانتظار انتهاء المسيرة، متحسراً على أيام كان لها وجه آخر في حياة الدير.

أسلحة تسفيه "الحدث الوطني" المتكرر ببلادة مملة لا تنتهي في دير الزور، وكان ممكناً في إحدى المراحل، أن يحيل طلاب ثانوية الفرات، مثلاً، مسيرة في ذكرى انقلاب حافظ الأسد -المسمى بالحركة التصحيحة- إلى علامة فارقة في إرث الدير؛ بحمل أحد أشهر حشاشي المدينة على أكتافهم ليقود الهتاف المزلزل للصهيونية والإمبريالية كالعادة، بعد أن فقد إحدى فردتي حذائه:

يصيح الرجل: ول سقط كلاشي

ترد الحشود بحماسة: بعثية

المقطع الثالث: لوح القاووش

لطالما كانت هناك قناعة راسخة في ديرالزور، أنّ طلبة المحافظة يتعرضون للتمييز في تصحيح أوراق إجاباتهم في الثانوية العامة، وهذه كانت على مدى نحو عقدين من الزمان قاعدة تأسيسية لسلوك دفاعي، اعتبر مبرراً ومتعادلاً مع الاعتداء -بصرف النظر عن مدى صوابيته- حوّل قاعات الامتحان إلى ساحات تظاهر سرّية ضد النظام، الذي اعتنقت أطراف العملية التعليمية في الدير -الطلبة والمدرسون والأهل- قناعة مشتركة تقود إلى يأس مبني على يقين بأنّ هناك انتظاماً مسبقاً لنتائج البكالوريا يجعل طلبة المناطق "العلوية" هم المتفوقين دائماً.

والواقع أنّ ثمّة نطاقاً عاماً من هذا اليأس في سوريا، إذ أنّ كتلة المناهج، كانت ولاتزال، ضخمة ومرهقة ومعقدة قياساً بدول عربية أخرى، وهي إحدى عوامل تحويل البكالوريا إلى ما يشبه حالة "جهادية" تخوضها الأسر السورية سنوياً؛ لتصطدم كلّ الجهود الخارقة، التي يبذلها الطلبة والأهل، أخيراً بجدار قانون الاستيعاب وقلة عدد الجامعات، وهي ثنائية قوّضت مستقبل ملايين السوريين على مدى عقود، في سياسة ممنهجة لامتصاص أرقام البطالة الهائلة داخل قاعات الجامعات المحشوة بطلبة مزمنين.

وفي دير الزور، التي تدمن التصرف كمركز حضري ومديني ثقيل، تعمل آلية أخرى تحيل إرث "التجهيز" العريق، وهو المبنى الوقور لثانوية الفرات، إلى مظاهاة اجتماعية للمدارس "الحديثة" التي يبنيها الإسكان العسكري بهندسة تشبه السجون، ومع أنّ الحاصل التعليمي للفرات لم يكن مختلفاً عن تلك "المدارس السجون"، إلا أن ّالمبنى ظل يلقى معاملة خاصة، باعتباره أعلى شأناً من قواويش نصبت فيها سبورة خضراء.

رفضت دير الزور عمداً إنشاء اعتراف اجتماعي ببنية التعليم ما بعد الفرنسية، وهو ما انسحب لفترة طويلة على مسوخ التنظيمات البعثية العسكرية، في معركة قادها جيل استطاع تفريغ محاولات النظام من محتواها "العقائدي"؛ ليرث جيل لاحق قام بالثورة حطاماً غير قادر على الدفاع عنه نظامه، مالبث أن تهاوى بسرعة، لتغيب مسميات الأسدين التعبوية سبع سنوات، قبل أن يحاول النظام بطبعته الإيرانية الأخيرة إعادة نبش جثثها، في استعراض قوة أمام من بقي من المدنيين، في مدينة سحقت بشراً ومعماراً .