المتسوّلون في عينتاب... اعتياد التشرّد وافتراش الأرصفة

فاطمة، إحدى نساء المجموعة والأقرب إليّ مكاناً، أجابتني بصوتٍ أقرب إلى الهمس: "من حلب"، حين سألتها "من أين أنت؟ وماذا تفعلين هنا؟". غادر أقاربها مدينة إسطنبول بسبب تهجير العديد من العائلات إلى مخيماتٍ حديثةٍ شرق الأناضول، والتقوا هنا للبحث عن وجهةٍ جماعيةٍ جديدة. "نحن ننام هنا منذ يومين بانتظار حماتي التي ستصل اليوم إلى عينتاب. أنا ووالد زوجي فقط نعرف المنطقة، لأننا سبقناهم إلى هنا بعدّة أشهر. نحن في العادة نتنقل على شكل مجموعاتٍ، ولا نفترق إلا في ساعات الصباح حين نسعى وراء رزقنا. توفي زوجي في حلب. وأهلي غادروا إلى مصر بعد قدومهم إلى تركيا. لم تطب لهم الحياة هنا، شأنهم شأن الكثير من القرباط . "في مصر الناس تفهم اللغة العربية التي نتقنها"، هذا ما قاله والدي وهو يأمر أفراد عائلتي بالاستعداد للسفر. أمي، التي تحب قراءة الطالع، أكدت أنها ستكون مرتاحةً في مصر أكثر. غادروا إلى مصر عن طريق قناة السويس، وأقاموا مخيماً لهم على أطراف مدينة نصر".
أسندت فاطمة رأسها إلى عمودٍ معدنيٍّ على الرصيف. ودون تفكيرٍ تحدثت: "لم نتمكن من البقاء في مكانٍ واحد، وهذه أول مشكلةٍ واجهتنا. نحن معتادون على البقاء معاً، وهذا ما لم نستطع أن نقوم به هنا. لا يمكن أن نجد مكاناً في مدينةٍ واحدةٍ وننصب فيه 40 أو 50 خيمة، وهو ما أجبرنا على التفرّق داخل تركيا وخارجها. أما الأمر الثاني فيتمثل في أن القرباط في تركيا لا يجيدون غير التسول. في سوريا كنا نقرأ الطالع ونعالج الأسنان ونصنع أوتار الآلات من أمعاء الحيوانات، وكثيرون منا يمتهنون الرقص والغناء. هنا لا عمل لنا إلا التسوّل. نحن نتحدث باللهجة الحلبية، أي أننا سوريون والناس تتعاطف معنا. في الأشهر الأخيرة بدأ هذا التعاطف يختفي، وهم الآن يسعون لاعتقالنا وحشرنا في المخيمات. نحن معتادون على الحرية وعلى نمط حياةٍ لا يتناسب مع الأسر من جهة، ومن جهةٍ ثانيةٍ قد لا نكون في مخيمٍ واحدٍ مع بقية أفراد عائلتنا".
تركتُ الكراج وتوجهت إلى سوق التشارشي. العديد من النسوة كنّ يهربن مني حين يرتطمن بالأسئلة، ولكن أم مصطفى كانت أقلّ تحفظاً. رافقتها وهي تبحث عن كيسٍ من النايلون تضع فيه النقود التي تأمل أن تجنيها من المصلّين. ويبدو أن هاجس الشرطة لم يغب عن ذهنها لأنها ظلت تتلفت يميناً ويساراً، تحضيراً للحظة الهروب التي تتكرّر عدّة مرّاتٍ في اليوم الواحد. وبالرغم من أنها تعتبر نفسها ماهرةً في الهرب، مقارنةً بغيرها، إلا أنها تحدثت بكثيرٍ من الخوف عن المرّات العشرين التي اعتقلت فيها، ولحظات الرعب التي عاشتها في المرّة الأولى. تقول بصوتها المنخفض: "حين يتمّ اعتقال أحدنا تعمل الشرطة على نقله إلى الحجز. ولكن، قبل دخول الحجز يتمّ تفتيشنا بدقةٍ شديدة، وأخذ كلّ ما جنيناه خلال النهار. ولسوء حظي كثيراً ما يتمّ الإمساك بي في المساء. يتمّ الاحتجاز لمدة ساعتين أعود بعدها إلى الشارع للحصول على رزقي مجدّداً".
وفيما يتعلق بتعامل الشرطة معها ومع مثيلاتها، أكدت أن الأمر يختلف من منطقةٍ إلى أخرى في غازي عينتاب؛ ففي بعض المناطق يتمّ الاعتقال بطريقةٍ عنيفةٍ ويتمّ التفتيش بطريقةٍ مهينة، وقد توجه إليهنّ الشتائم في بعض الأحيان، وفي مناطق أخرى يتعاملون معهنّ بنوعٍ من الشفقة وشيءٍ من الغضب.
أسئلةٌ كثيرةٌ لم يمهلني الشرطيّ، الذي بدأ بالركض خلف أم مصطفى وأولادها، لأطرحها، فتركتها معلقةً في رأسي وغادرت تشارشي.