الكتائب الفقيرة...

عدسة أحمد | خاص عين المدينة

على الخطوط الأولى لجبهات القتال في مدينة دير الزور، ترابط مجموعاتٌ قليلة التعداد من الجيش الحر، لم يسمع بأسمائها الكثيرون. تختلف هذه التشكيلات عن سواها في كثيرٍ من المظاهر والصفات. إنها الكتائب الفقيرة، التي انقرض بعضها نتيجة استشهاد جميع المقاتلين في صفوفها.

بعددٍ قليلٍ من الرصاصات، لا يكاد يملأ مخزناً أو مخزنين، يبدأ (ع) نوبته مع رفاقه الخمسة من الكتيبة، في المرابطة داخل شقةٍ سكنيةٍ من بناءٍ مؤلفٍ من أربعة طوابق، يبعد خمسين متراً فقط عن بناءٍ آخر يتمترس فيه جنود الأسد. يعرف (ع) رفاقه جيداً، فهم أصدقاء قبل اندلاع الثورة، انخرطوا فيها سوية كمتظاهرين سلميين، ولم يخطر في بالهم يوماً أنهم سيصيرون مقاتلين يحملون البنادق ويألفونها كما يألف المدخن العتيق علبة التبغ.
لا يحب هؤلاء الشبان التصوير، ولا تبنّي العمليات العسكرية وبثّ مقاطعها عبر اليوتيوب على شبكة الإنترنت. وليست لكتيبتهم صفحة على موقع التواصل فيسبوك، وليس لهم أيضاً داعمٌ في الخارج يخاطبونه بلباقةٍ عبر السكايب ليرسل لهم المال. ولا يعرفون عن تركيا ـ كما يمزح (ع) ـ إلا عَلَمها ورئيس وزرائها ومسلسلها الشهير «وادي الذئاب».

 

في بعض المزايا عن الكتائب الأخـرى

قلة الموارد، من مالٍ وذخيرةٍ، وإنفاقها أو استهلاكها السريع على العمليات القتالية، في حال توافرها؛ هي السمة الأولى التي تتقاطع عندها الكتائب الفقيرة. وكذلك قلة التعداد، إذ يتراوح عدد المقاتلين بين 20 إلى 30 فرداً في كل كتيبة، تجمع بينهم في أغلب الحالات صلاتٌ أخرى بعيدةٌ عن الثورة، كالصداقة أو الدراسة أو العمل أو التجاور في السكن، وقد مرّوا جميعهم بالمرحلة السلمية للثورة ثم تحولوا إلى السلاح. وكذلك يتميز أفراد هذه الكتائب بالمستوى التعليمي المرتفع نسبياً، فمعظمهم طلبة جامعاتٍ أو معاهد أو خريجون، وفي أقل الأحوال حاصلون على الثانوية العامة. ومن جهةٍ أخرى، يتقارب مزاج هؤلاء المقاتلين مع أمزجة المدنيين وقناعاتهم الثورية في القضايا والأحداث العامة، فهم يتذمرون مثل المدنيين من أخطاء الجيش الحر، وينتقدون بشدّةٍ عدداً من تصرفات بعض المقاتلين.
وفي أسلوب حياة هؤلاء يلاحظ أن مقراتهم، أو أماكن إقامتهم في أوقات الراحة، قريبة جداً من خطوط التماسّ ومواقع المرابطة. ويعللون ذلك برغبتهم بالتحرك والوصول السريع لنجدة أو مساعدة رفاقهم في حالات الطوارئ، وبالرغبة أيضاً بالبعد عن المدنيين، لحرمان النظام من ذريعة قصف مقرات الحرّ في الأحياء المأهولة. وبحسب تعبير (أبو صالح)، وهو أحد مقاتلي الكتائب الفقيرة: "طلعنا من خطا المدنيين".

 

ميّت ما يساعد ميّت

لا يُقبل أيٌ كان في صفــــــــــوف الكتائب الفقيرة، فهم يعتزّون بسمعتهم الحسنة، ويفخرون بأنهم لم يصطدموا مع أي مدني أو مقاتل، رغم خشونة الظروف في حرب المدن التي يعيشونها منذ أكثر من عامٍ كامل. ويحرص هؤلاء المقاتلون على تفوق المزايا السلوكية لتشكيلاتهم، فهم شديدو الزهد بكماليات العدد والتجهيزات القتالية. فمعظم الكتائب الفقيرة لا تملك سياراتٍ، مثلاً، ويذهب مقاتلوها إلى الخطوط الساخنة سيراً على الأقدام. وهم لا يتحركون كثيراً في أوقات الراحة، ويكرهون الظهور في أوساط المدنيين. ومن جانبٍ آخر، يبدون حساسية كبيرة تجاه المال، فيرفضون التسول ـ كما يقول (ع) ـ أو التبعية أو الدعم المشروط بالولاء لفكرةٍ أو أيديولوجيةٍ معينة. فما زالت الثورة بالنسبة إليهم ثورة مظلومٍ ضد ظالمٍ، فقط.
وترتبط هذه الكتائب مع بعضها بعلاقاتٍ متينةٍ أساسها الاحترام والتقدير المتبادلان، رغم حرص كلٍ منها على الاستقلالية، مما يثير التساؤل عن عدم اندماجها مع بعضها في تشكيلٍ واحدٍ كبير. ويضحك (أبو صالح)، مفسراً ذلك بمقولةٍ شهيرة "ميّت ما يساعد ميّت"، كنايةً عن اللا جدوى في الاتحاد. فكل كتيبةٍ تتدبر أمرها بشبكةٍ من العلاقات الشخصية أو علاقات العمل العسكري مع الألوية الكبيرة، التي تحتاج إلى هذه الكتائب الصغيرة لسد الفراغ في بعض القطاعات على الجبهة، وبالتالي التكفل بتذخيرها بالحد الأدنى اللازم.