الثمن يُدفع مرتين.. شهادات معتقلات في سجون النظام

مثّل اعتقال النساء الحلقة الهشة، التي استعملها النظام لأغراض مختلفة؛ الضغط على فصائل المعارضة، مبادلة أسرى، الحصول على معلومات، والانتقام من المجتمعات الحاضنة للثورة، وعلى الدوام خلال السنوات السابقة ظهرت على شاشات قنواته التلفزيونية، فتيات وسيدات أكرهن على الاعتراف بتهم باطلة، تحت التعذيب والتحرش اللفظي والجنسي والتهديد بالاغتصاب.

لا تقف الجرائم المرتكبة بحق المعتقلات على الوقت الذي قضينه في السجون، بل يمتد بعد الإفراج عنهن بنظرة الأسرة والمجتمع نحوهن، على أساس ثقافة تربط عفة المرأة بشرف العائلة، بعد ما تتعرض له المعتقلة افتراضاً كان أم حقيقة؛ كوصمة عار، وبتجاهل تام لحقيقة أن المسؤولية تقع فقط على السجان لا على الضحية. 

بعد الإفراج عنهن تعاني كثير من المعتقلات من مصاعب الاندماج ثانية في مجتمعاتهن: «اللي ما بترحم» كما تقول إيمان ـ اسم مستعار- التي اختارت الهرب إلى تركيا بعد خروجها من المعتقل آخر العام 2015.  في المعتقل تعرضت إيمان للاغتصاب مرات عدة من قبل عناصر المخابرات، فهي إلى الآن ميتة بنظر أهلها الذين لا يعرفون شيئاً عن مصيرها. في مدينة حلب وقبل ثلاث سنوات حين اعتقلت كان عمرها (19) عاماً: «كنت طفلة وما كان لي أي نشاط، ورغم هالشي اغتصبوني. تلت عناصر اغتصبوني بفرع الأمن العسكري بحلب». ومن حلب إلى السجن البولوني بحمص ومنه إلى فرع فلسطين بدمشق، حيث قضت خمسة أشهر هناك قبل أن تحول إلى سجن عدرا ثم تعرض على محكمة الإرهاب التي أطلقت سراحها وفق ما روت رحلتها الطويلة والمريرة في معتقلات النظام ثم بعد الإفراج عنها: «لما طلعت ما عرفت لوين أروح، ما قدرت أرجع عالبيت، الناس ما راح يرحموني، رحت على وحدة من إدلب كانت معي بالسجن وبعدين فتت على تركيا»، تقول إيمان أنها لا تستطيع النوم، وتعاني من الفزع والكوابيس حتى اليوم، وتقول بأنها لا تستطيع النظر بوجه أي رجل ولن تفعل.

أم محمد من مدينة معرة النعمان، وهي أم لثلاثة أطفال، طلقها زوجها بعد خروجها من المعتقل بأيام. اعتقلت أم محمد في فرع الأمن العسكري بإدلب لمدة عشرة أيام، بدلت حياتها، كما تقول: «صارت نظرات زوجي مليانة شك واتهام وصار يسألني أسئلة جارحة، وخبرني بعد أربع أيام من طلعتي من السجن إنه الشك ياكل قلبه وإنه ما يقدر يكمل بالحياة معي».

ترى فاطمة (52) عاماً، وهي قابلة قانونية من مدينة جسر الشغور أن المعتقلات دفعن الثمن مرتين، «مرة لما اعتقلوا ومرة تانية لما طلعوا وشافوا نظرة المجتمع وشو صار بالثورة»، وليست النساء حسب قولها مجرد «ورقة ضغط» بل هن مشاركات فعلاً بنسيج العمل الثوري. ناضلن من أجل الكرامة والحرية والعدالة منذ الأيام الأولى للثورة. فمن مكان عملها في مشفى جسر الشغور هربت فاطمة وعبر نساء مراجعات لها، أكياس أدوية إلى المشافي الميدانية لمعالجة الجرحى، حسب ما تقول متذكرة شجاعة النسوة اللاتي ساعدنها بهذه المهمة التي قد تودي بهن إلى الموت أو الاعتقال.

لم تتعرض فاطمة إلى «الظلم الاجتماعي» لكنها سمعت بأخريات تعرضن لذلك دون وجود من يدافع عنهن، بل تركن وحيدات في ظروف قاهرة يدفعن ثمن وقوفهن إلى جانب الثورة «دام اعتقالي ثلاث شهور، أيام بفرع الأمن العسكري بإدلب، وبعدها أكثر من أسبوع بفرع حمص، وبعدين حولوني على فرع فلسطين، ومن هنيك تحولت على سجن عدرا، وبعدين على محكمة الإرهاب وطلعت». فصلت فاطمة من عملها في المشفى، لكن وقوف الأهل والأصدقاء معها خفف من آثار هذا الفصل، «بتركيا استقبلوني بعراضة، وكثير من الثوار، ومن الجيش الحر كانوا يوقفوا بحب واحترام لما أمر من عندن» حالة فخر تشعر بها فاطمة أينما حلت، حسب ما تقول عن تجربتها في المعتقلات، حيث كان فرع فلسطين أكثرها سوءاً، فالزنزانة: «6 أمتار طول، و4 عرض، وما ينقص عدد المسجونات فيها عن 35، ويصل مرات كثيرة فوق 50.. ما كان في شباك، وكان في كاميرا تراقبنا على طول، وكانت غرفة التعذيب لصق زنزانتنا، ونسمع الأصوات ونتعذب فوق عذاباتنا».

رغم مرور ثلاث سنوات تقريباً على الاعتقال، ما زالت صور من تلك الأيام تتكرر في منامات فاطمة:  «بفرع فلسطين كان في طفلة بعمر 12 سنة، وطفلة تانية بعمر 16 سنة، كانوا يصرخوا على طول: بدي ماما.. وبعد كل حفلة تعذيب يومية، كنا نشوف لحم متفتت، ومرة شفت دود ياكل إيد وحدة من درعا قد ما عفن الجرح». كل ذلك الألم كان مصحوباً بالقوة في حالات كثيرة: «كنت حس إنه الله معي، ومعنا، رغم الضعف اللي يصيبنا.. وكان في وحدة من إبطع بدرعا، كل يوم ياخذها السجان ع التعذيب، ويرجعها خرقة، ويصرخ: راجعلك بكرى، وترد له: ماراح احكي»، تتذكر فاطمة عجوزاً بعمر 75 عاماً، كانت تحتاج إلى أربع نساء ليساعدنها على الوضوء، وتظل توصيهن رغم ضعفها بالصمود فـ : «الحياة وحدة والموت واحد».

كل ما تتمناه فاطمة اليوم هو أن تنتصر الثورة، وبحرقة توجه رسالة إلى قادتها: «بيكفي. ماني زعلانة ع التمن اللي دفعناه، ذل، إهانة، اغتصاب، قتل وتشريد، وإنتوا مختلفين مع بعض وعم تنهشوا فينا»، وتختم شهادتها بالقول: «لو كان تمن سقوط الأسد اعتقالي من جديد، بروح برجلي على السجن».

تتفق زين العبد الله، الناشطة والمعتقلة السابقة في سجون النظام، مع فاطمة حول قوة النساء المعتقلات، وصمودهن في مواجهة السجانين والمجتمع، وترى أن الإعلام مشغول بتغطية أخبار الحرب عن قضية المعتقلات والانتهاكات الفظيعة بحقهن، خلال السجن وبعده، في العام 2015 وبعد (14) شهراً قضتها في المعتقلات، أفرج عنها. تقول زين حين تخرج المعتقلة تظل ترافقها نظرات شفقة، وتُسأل أسئلة مُستَهجَنَة من نساء: «إن شاء الله ما اغتصبوكي؟». وترى أن هذا السلوك نحوها أقسى مما مرت به أثناء الاعتقال: «وبحالتي لاقيت كثير لوم، إنو ليش رحتي على مناطق النظام، وكان بلا هالماجستير كله»، والأنكى من اللوم، هو تقدم بعض الرجال للزواج بنية طيبة، تحت بند «نستر عليها». المعتقلات لسن بحاجة للشفقة، إنما لحياة طبيعية واستيعاب من المجتمع، حسب ما تقول زين: «لأن الشفقة تزيد المشكلة أحياناً أو دائماً». تروي زين خريجة كلية التربية، التي عملت متطوعة بمشفى دار الشفاء في حي طريق الباب المحرر آنذاك، حكاية الاعتقال التي تسببت به فتاة، كانت تعمل معها في المشفى قبل أن يُكتشف أمرها كجاسوسة للنظام، وتحبسها الهيئة الشرعية، التي لم تلبث أن تركتها «يمكن دفعت مصاري وطلعت» لتهرب إلى الجزء الذي يسيطر عليه النظام من مدينة حلب، ثم تعمل «كـ شبيحة» ومخبرة علنية على حاجز بستان القصر، فتكون زين إحدى ضحاياها على هذا الحاجز، حيث اقتادها الجنود إلى مستودع في حي المشارقة يستعمل كمعتقل، قبل أن تنقل إلى فرع الأمن العسكري في حلب ويُلقي بها هناك بزنزانة، طولها مترين وعرضها متر واحد. في ذلك المكان أمضت زين (40) يوماً. وكانت جلسات التحقيق والتعذيب تطول لأكثر من (5) ساعات ولثلاث مرات كل يوم. من المشاهد الفظيعة التي روتها، تذكرت طبيباً فقد عقله من شدة التعذيب وصار يبول في ثيابه.

من فرع حلب حولت زين إلى فرع الأمن العسكري في حماة، لتسجن أياماً في مرحاض ضيق لا تزيد مساحته على (4) بلاطات. ومروراً بالشرطة العسكرية في حماة، ثم الشرطة العسكرية في حمص، فسجنها المركزي، وصلت فرع فلسطين في دمشق محمولة بالطائرة لتقضي (6) أشهر في هذا الفرع، قبل أن تحول إلى مخفر في حي ركن الدين، ثم إلى سجن عدرا ليفرج عنها بعد ذلك من هناك.

تقول زين إن كل المعتقلات التي مرت بها سيئة، لكن «فرع فلسطين» أشدها إيذاءً ووحشية على الاطلاق: «كانوا مرات يجيبو معتقل ويعذبوه قدامنا حتى يغيب عن الوعي، يرشو عليه مي بارد ويصعقوه بالكهربا.. كل شي وحشي بـ هالفرع، الكهربا، الدولاب، الكرباج، الأنبوب المعدني، لكن الأكثر وحشية وقسوة مهانة اغتصاب المعتقلين أمامنا من قبل السجانين»، وليس التعذيب الجسدي وحده ما يفاقم الألم، بل مكان الاعتقال نفسه، «بدون شبابيك، بدون ضو، ومرة وحدة باليوم مسموح لنا نطلع ع الحمام، ومرة وحدة خلال ست أشهر قدرت اتحمم بمي بارد ولمدة ثلاث دقايق بس، القمل والصراصير، بكل مكان بالزنازين، ما في دوا، ولا رعاية طبية، وحتى السجانين كانوا يحطوا كمامات تحت بالفرع، حتى ما يشموا الريحة، ولما كنّا نطلب دوا، كان الجواب: خبرونا بس تموت لنكبا بالزبالة».

لم تصدق أنها ستخرج، بعد قولها لقاضي محكمة الارهاب أن محكمتهم غير شرعية، فوعدها بأنها لن تخرج أبداً. من هذه المحكمة حوّلت لمحكمة الجنايات، التي أفرجت عنها لتعود إلى المناطق المحررة، وتمارس مهنتها في التعليم، وتستأنف نشاطها في المشافي.

حملت زين حكايتها الأليمة هذه على شكل فيلم صورته في حلب، إلى بريطانيا وأمريكا، وحين عادت وَجّهت حركة أحرار الشام لها تهمة التجسس، وسُئلت خلال التحقيق عن سبب ذهابها إلى أمريكا كما تقول. عاشت حصار حلب، مؤمنة بالثورة وبأهمية دورها فيها، يساندها أهلها الذين طلبوا منها: «أن ترفع راسها عالياً، فهذا شرف إلك وإلنا». محظوظة كانت بهذه المساندة، وهي، التي عايشت تجارب معتقلات أخريات، طُلقن من أزواجهن، ونبذن من المجتمع، فمضين وحيدات في بلدان اللجوء.

بعد سقوط حلب سافرت زين إلى كندا، وفي كل يوم تفكر في العودة، وهي نادمة لأنها ذهبت إلى كندا، ولكن: «بعد سقوط حلب ما ضل شي».

اللوحة لـ ناصر حجي كسو