RFE/RL

سحبت السلطات الإعلامية في إيران الخبر السوري من الصفحات الأولى في صحفها الرئيسية، ومن مقدمات نشراتها الإخبارية، فيما اعتبرت محاولة رسمية لمواراة حقيقة العلاقة بين التورط الإيراني ذي الكلفة المتفاقمة بشرياً واقتصادياً واجتماعياً في دعم نظام بشار الأسد، وبين الاحتجاجات العنيفة التي اندلعت على نحو مفاجئ في عدد كبير من المدن الإيرانية، واستمرت أكثر من أسبوع، قبل أن تسحقها آلة القمع الرسمية بفروعها العسكرية والأمنية والقضائية.

المفارقة الصارخة تكمن في توازي عودة تطبيقي «تيلغرام» و«أنستاغرام» إلى فضاء الإتاحة في إيران، بعد حجبهما طيلة فترة الاحتجاجات –فيسبوك وتويتر ممنوعان أصلا وبصورة مستمرة–، وإطلاق سراح نحو 400 من أصل 3700 إيرانياً اعتقلوا، وقتل منهم 15 تحت التعذيب في سجني «ايفين» و «رجائي شهر» سيئي الصيت، سلمت جثث 8 منهم لذويهم، فيما لا تزال 7 أخرى بانتظار توقيع الأهالي على إقرارات تفيد بأنهم قضوا نتيجة ظروفهم الصحية السيئة، مع سلوك إعلامي ودعائي يخلط بين بروباغندا معلنة تحيل كل القضية إلى مؤامرة خارجية، وبين توجيهات غير معلنة تحاول امتصاص أسباب النقمة الاجتماعية.

لم يكن ثمة شيء في حسبان النظام حتى ليلة 27 كانون الأول 2017. لكنّ اليوم التالي حمل مفاجأة في موقع كان يعتبر مضموناً في أكثر فترات الاضطرابات. انفجرت احتجاجات صاخبة في (مشهد) ثاني كبريات مدن البلاد، والتي تضم أحد أقدس الأضرحة عند الشيعة، وكان الطابع الأوّلي لهذا الاحتجاج الذي تمّ إنكاره كلياً في البداية مطلبياً، يتعلق بالضائقة الاقتصادية التي تعيشها طبقات واسعة من المجتمع؛ بعد أن خاب أملها في عوائد الاتفاق النووي، وتبخّرت إلى سراب كتلة الوعود البرّاقة بانفتاح وتدفّقات مالية، وصفقات كبرى مع شركات عملاقة -وقّع بعضها بالفعل، لكنه علق في متاهة العقوبات الأميركية غير المرتبطة بالبرنامج النووي-؛ وبعد أن استهلكت الأموال المفرج عنها غربياً في الإنفاق العسكري المتضخم بفعل التورط المتزايد في سوريا بالإنفاق المباشر دعما لنظام الأسد، وبكتلة تمويل حشد ضخم من المليشيات الطائفية السورية وغير السورية، وأيضا في تزويد الحوثيين في اليمن بالأسلحة والصواريخ البالستية؛ مع ارتفاع مضطرد في تسليح حزب الله، المستهلك الأكبر لأموال الإيرانيين ضمن شبكة الإرهاب التي تديرها حكوماتهم.

  • سوريا وغزة .. ولبنان

سرت النار سريعاً في هشيم الاحتقان الاجتماعي، ومع حلول اليوم الثاني كشفت الاحتجاجات عن اسمها الحقيقي «اعتراضات سراسري» (أي مظاهرات شاملة)، وعن مطالب سياسية تدخل في صلب مقدسات منطق الحكم والسلطة في إيران، «دعوا سوريا وشأنها .. واهتموا بنا» «لا غزة ولبنان .. روحي فداء بلادي إيران». كان هذا مؤشراً لا يمكن الخطأ –أو ادعاء الخطأ- في فهمه. الشارع الإيراني يربط أزماته الداخلية بتورطات خارجية لا يرى من ورائها طائلاً، سوى مزيد من الفقر والعزلة الدولية، وهو غير مقتنع على الإطلاق بالدعاية الثورية التي لم تتوقف منذ الثورة الخمينية قبل 38 عاماً، عن عظمة الدولة وقوتها ودورها النهائي والقيامي في مقارعة الاستكبار و«الشيطان الأكبر».

وحين لم تستجب السلطة للشعارات «الوسيطة» في اليومين الثاني والثالث للاحتجاجات التي انتشرت في شمال وغرب البلاد، تحوّل الأمر إلى استهداف مباشر لكل ما تعتبره آلة الحكم ممثلاً لها، من مخافر الشرطة، ومراكز مليشيات التعبئة «الباسيج»، والحوزات الدينية، وصولاً إلى صورة المرشد الأعلى علي خامنئي ذاته؛ الذي بات اسمه المعلن في شوارع 70 مدينة بينها طهران، بل و(خمين) مسقط رأس الخميني نفسها «الديكتاتور». وتحول الشعار الشهير «مرك بر أمريكا» (الموت لأميركا) إلى «مرك بر ديكتاتور».

لم تكن سوريا التي رفع علم ثورتها في إحدى المظاهرات تحدياً للملالي، ولبنان الذي حاق بأتباع إيران فيه ذهول واضح، حتى خرج نصر الله شامتاً بالشعب الإيراني، بعد نحو أسبوع من القمع الوحشي، سوى عناوين شخصت أزمة بنيوية داخلية؛ علّق عليها النظام طغيانه المستمر وتدخلاته المتناسلة في محيطه الإقليمي وفي أصقاع بعيدة في أميركا اللاتينية و أفريقيا، وردّ المتظاهرون عليه بأن حولوها إلى شعارات مواجهة في شوارعهم، وعناوين وطنية لفقرهم غير المبرر.

في العمق كان شأنا يتعلق بموقف الإيرانيين من طريقة حكمهم، وهو تهديد جذري سيظل شاخصاً حتى مع نجاح السلطات في قمعه راهناً –الاحتجاجات الأخيرة جاءت بحد ذاتها نفياً عنيفاً لاقتناع النظام باستقراره بعد سحق الحركة الخضراء-، لأنّه يختزن رفضاً لم تتم معالجته، ويجري اغتياله في كل مرة يتاح للمواطن العادي تلمّس القدرة على تغييره، أو إحداث أثر فارق في مساره عبر الانتخابات، إذ أنّ النظام الانتخابي في إيران مصمم بعناية كي ينتج النظام نفسه بنفسه كلّ مرة، مهما اختلفت عناوين الطبقة السياسية بين محافظين ومعتدلين وإصلاحيين.

  • انكشاف التقابل والتماثل

حصلت المظاهرات في إيران على دعم دولي سريع، خطابياً وإعلامياً على الأقل، وبالرغم من أنّ أنصار النظام استغلوا هذا فوراً لوصم المحتجين بالخونة المتآمرين الموالين لأجندات خارجية، فإنّ وضع هذه الاحتجاجات في متاهة الصمت المنافق لم يكن سيغير من الأمر شيئا؛ لأنّ الاتهامات السابقة كانت ستلحق بهم سواء أكتب دونالد ترامب تغريدتين داعمتين لهم أم لم يفعل، والواقع أنّه لو صمت لاعتبر النظام هذا ترخيصاً بمزيد من القمع كما حدث في سوريا وغيرها.

والواقع أنّ أهم نتيجة أفرزتها هذا الاحتجاجات التي أعلن الحرس الثوري نصره عليها في 7 كانون الثاني 2018 -بعد قتل 25 مدنياً وفق البيانات الرسمية، وأكثر من 45 حسب احصائيات المعارضة ونشطاء إيرانيين- كان انكشاف التقابل بين المجتمع والطبقة السياسية برمتها، وانكشاف التماثل بين مكونات هذه الطبقة حين يتعلق الأمر بطرح تحول بنيوي يشطب امتياز النخبوية مسبقة الصنع، ويقوض الدولة الثيوقراطية التي تحولت الديموقراطية المقننة فيها إلى ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية.

سيكون هذا على الأرجح عنوان أي انتفاضة أخرى قادمة، قد تتجاوز أخطاء وعشوائية الاحتجاجات الأخيرة وانعدام وجود قيادة لها، إلى تيار أكثر صلابة يمكنه النفاذ الى حيث تكورت الطبقة الوسطى المرتبطة جزئياً ومصلحياً بالحفاظ على نفسها دفاعاً عن مكاسب محدودة ومضمونة مؤقتاً، وتركت آلة القمع تعمل سطوتها المدمرة بين متظاهري مدن الأطراف والعشوائيات الفقيرة، الذين وللمفارقة، كانوا يعتبرون دائماً خزاناً بشرياً ضخماً لقوات الباسيج التي قمعتهم دون تردد.

تكمن قوة هذه الموجة الاحتجاجية في أنّها وخلال تسعة أيام قوّضت نحو أربعة عقود من البروباغندا الأيديولوجية، وحولت ما يروج لها على أنها «انتصارات إلهية» إقليمية للطغمة الحاكمة إلى أزمات داخلية ثقيلة، وهدمت أسوار الاختلاف الوهمي بين مسميات السياسة الإيرانية، حين أجبرت من كانوا يصفون أنفسهم بدعاة الحريات على الخروج من قمقم الانكفاء ليعلنوا وقوقهم ضد حرية شعبهم.

لا تنبني الثورات على أكثر من ذلك .... حتى وإن بدا لوهلة قد تطول أو تقصر أنها قمعت بقسوة احتفالية.