استثمار نفط ديرالزور في قلب التجاذبات الإقليمية والدولية شرق سوريا

بعد غموض وجدل كبيرين، قررت الإدارة الأمريكية إبقاء قواتها في منطقة الجزيرة السورية، ما وضع حداً للكثير من التكهنات والتحليلات السياسية حول مصير المنطقة بعد انسحاب القوات الأمريكية منها، ولكن القرار جلب معه تحليلات أخرى مرتبطة بملف النفط في المنطقة والتصريحات الأمريكية بخصوصه. 

خلال الأيام القليلة الماضية، أرسلت الولايات المتحدة الأمريكية المزيد من قواتها لتعزيز تواجدها في الجزيرة السورية، وتركز انتشارها داخل وحول حقول النفط والغاز بدير الزور: حقلي العمر والتنك النفطيين ومعمل كونيكو للغاز بشكل أساسي، وتتوارد أنباء حول إنشاء قواعد عسكرية أمريكية إضافية في شرق دير الزور بالقرب من قرية الباغوز وشمالها في ناحية الصوّر، كما أعلن الرئيس الأمريكي ترامب أن الهدف من بقاء قواته في شرق سوريا هو لحماية آبار النفط من تنظيم داعش، وأضاف نائبه مايك بنس: "أن الولايات المتحدة لن تسمح بسيطرة روسيا أو إيران أو الحكومة السورية الحالية على حقول النفط شمال سوريا". كما أكد وزير دفاعه مارك إسبر على أن "القوات الأمريكية ستتصدى بقوة لأي محاولة لانتزاع السيطرة على هذه الحقول من أيدي الجماعات المدعومة من الولايات المتحدة الأمريكية". حيث سبق أن تصدت قوات التحالف الدولي عدة مرات خلال العامين الماضيين لمحاولات ميليشيات تابعة لنظام الأسد في بلدة خشام التقدم للسيطرة على حقل العمر النفطي المجاور للبلدة.

تركز استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية في شرق سوريا على منع عودة ظهور تنظيم داعش في المنطقة، ومراقبة أنشطة إيران فيها، ويأتي بقاء القوات الأمريكية لحماية حقول وآبار النفط كهدف استراتيجي آخر يتمثل في حرمان نظام الأسد وحلفائه الروس من الاستفادة من الموارد المحلية بما يحسن أوضاعهم الاقتصادية في سوريا، وهذا ما لاقى معارضة من قبل الروس الذين اتهموا الأمريكيين بتهريب النفط من حقول الشرق السوري إلى خارج البلاد.

يتضح من التصريحات الأمريكية والروسية حول ملف النفط في شرق سوريا، الأهمية الاقتصادية لهذه الموارد لإدارة الصراع المحلي في منطقة الجزيرة السورية، وهذا ما أكده تصريح الرئيس الأمريكي ترامب في هذا السياق بأن عائدات النفط سوف تستخدم لتمويل حلفائه المحليين لمواجهة خطر داعش وحماية السجون التي تحتجز فيها قسد عناصر التنظيم، وكذلك لدعم الخدمات والإغاثة في المنطقة، ما سيخفف من الأعباء المادية على الإدارة الأمريكية.

منذ انتزاع السيطرة عليها من تنظيم داعش ولغاية اليوم، تدير "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) حقول النفط في شرق سوريا، وتعين لذلك الغرض "هافالات" (وهي التسمية المحلية للكوادر الأكراد المشرفين على الإدارات المدنية أو العسكرية في الإدارة الذاتية) للإشراف على بيع النفط وتصديره، وشكلت فيما بعد هيئة المحروقات (سادكوب) لتنظيم وإدارة بيع النفط الخام للتجار المحليين، وأبرمت عقود استثمار مع تجار من خارج المنطقة أيضاً. وتستخدم قسد جزءاً من عائدات النفط لتغطية رواتب مقاتلي المجالس العسكرية بشكل رئيسي مقارنة بتمويل الخدمات الأساسية وتقديم الإغاثة الإنسانية في المنطقة.

وتؤكد العديد من المصادر المحلية في شرق سوريا وجود فساد كبير يعشعش في هذه الإدارة فيما يخص عائدات بيع النفط. فعدا عن السرقات من العائد المالي لبيع النفط من قبل بعض "الهافالات" المشرفين على آبار النفط وهيئة المحروقات، فهناك العديد من التسهيلات لتجار النفط المحليين المقربين من الإدارة، ابتداء من المحسوبيات في تخصيص وتحديد الأدوار مقابل رشاوى لمشرفي وأعضاء مكتب سادكوب، إلى السماح لتجار النفط باستجرار كميات نفط تفوق المخصصات التي سددوا أثمانها، إلى جانب التسهيلات التي يقدمها عناصر في المجالس العسكرية العرب والأكراد لشبكات تهريب المحروقات المنتشرة في ريف دير الزور الشرقي مقابل جزء من عائدات التهريب، حتى أصبحوا جزءاً من هذه الشبكات المحلية. 

ولمواجهة مطالب بعض فروع العشائر المجاورة لآبار النفط بحصص من عائدات الآبار في مناطقهم، خصصت قسد أياماً محددة شهرياً تستفيد فيها تلك الفروع العشائرية من آبار النفط في قرى: جديد بكارة، جديد عكيدات، ماشخ وبعض قرى الخابور لاستثمارها لحسابها الخاص، إضافة لتخصيص استثمار مشابه لمجلس دير الزور العسكري، بينما عمدت إلى تخصيص مبلغ إضافي من عائدات النفط لبعض المجالس المدنية والبلديات في منطقة عشيرة الشعيطات دون مراقبة كيفية صرف هذه المخصصات من قبل أعضائها ومحاسبة الفاسدين منهم.

في المحصلة لا تختلف كثيراً إدارة قسد الحالية لحقول النفط عن طرق إدارتها من قبل القوى التي سيطرت على المنطقة سابقاً، نتيجة طبيعة البنية الاجتماعية لهذه المنطقة. ويزداد انتشار عمليات تهريب المحروقات إلى مناطق نظام الأسد، كأبرز مظاهر استمرار اقتصاد الحرب الذي يشكل فيه النفط أحد أهم مصادر الكسب المادي، وأدى -مع عوامل أخرى- إلى ازدياد أسعار المحروقات في المنطقة، وأثر سلباً على المستوى المعيشي ومستوى الخدمات فيها، وظهر أثره في بعض مطالبات الأهالي خلال الاحتجاجات التي حصلت في شهر نيسان الماضي.

ورغم أن العديد من التقارير تشير إلى أن عتبة الإنتاج النفطي في شرق سوريا تتراوح فقط بين 70 و90 ألف برميل يومياً، إلا أن اقتراح الرئيس الأمريكي بأن تدير شركة "إكسون موبيل" أو شركة نفط أمريكية أخرى حقول النفط شرق سوريا، علاوة على أنه قد سيؤسس لبقاء طويل للشركات الأمريكية في المنطقة، فإنه سيثير العديد من التساؤلات والتحديات، سواء المتعلقة بتوفر الكوادر المحلية اللازمة للعمل في هذه الحقول، والتي قد تجبر الأمريكيين على عقد تفاهم مع الروس لتأمينهم من ذوي الخبرة من مناطق نظام الأسد، واستثناء أهالي المنطقة الذين يمنون أنفسهم بفرص عمل، وأخيراً المتعلقة بالتحديات التي سيواجهها الأمريكيون في تفكيك شبكة المصالح المحلية المعقدة في قطاع النفط، والتي قد تجبر أمريكا على مراعاة مصالح جماعات وأشخاص ضمن هذه الشبكات لتلافي أن تنتج عن هذا التفكيك صدامات مع المجتمع المحلي.