إيران بعد انهيار الاتفاق: ثمن مضاعف لوهم الهيمنة

سيجد أنصار نظريات المُؤامرة في معسكر الممانعة الذي تقوده إيران، أفقاً واسعاً وأرضاً خصبة، لبناء افتراضات وآراء قاطعة حيال "المؤامرة الكونية" التي تتعرض لها إيران مع بدء تطبيق سياسات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد دولة الملالي.

ثمّة إغراء أصيل هنا، فالدولة التي تصنّف على أنّها الراعي الأول للإرهاب في العالم، تُواجه ضغوطاً متسارعة، قوّضت بسرعة صاروخية كل الآمال التي بناها ساسة إيران في انفتاح اقتصادي على العالم، يُنهي ثلاثة عقود من العزلة، وفي هيمنة إقليمية مشفوعة باتفاق نووي بني أساساً –رغم كل إنكارات إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما– على استبدال الخطر النووي الإيراني، بترخيص الامتداد الإقليمي عبر جسر رئيسي هو سوريا.

والواقع أنّ أيّ استعراض سريع لتطور الأحداث في سوريا، عقب توقيع الاتفاق بل وخلال المفاوضات لتوقيعه؛ سيقود إلى تشابك واضح، بين انقلاب التوازن الميداني لصالح النظام، والتدخل الروسي بطلب مُعلن من إيران. ولعلّ هذا ما سيسهل لمريدي الممانعة، في نسختها الإيرانية الأحدث ابتناء تفسيرات تربط بين انسحاب ترامب من الاتفاق، وبين ما يعتقدون أنّه "النصر الإلهي"، الذي حققه النظام وحلفاؤه الإيرانيون عبر مليشياتهم الطائفية متعددة الجنسيات.

وليس من الصعب هنا الاستنتاج، أنّ أيّ ضعف يعتري قدرة إيران على مواصلة تغذية هذا التمدد، سواء لأسباب مالية تحت وطأة العقوبات، أو لعوائق ميدانية نتيجة التصيّد العسكري الإسرائيلي الذي بات مُعلناً في سوريا؛ سيقود إلى ضعفٍ مقابل في قدرة نظام الأسد على مواصلة إبداء وادّعاء التماسك، وهو ما سيصعّب مهمة روسيا نفسها في سوريا. فهي حتى وإن بدت منتصرة الآن، فإنّ جزءاً أساسياً من هذا الظاهر يعود إلى "خزان القتلى" الذي تمدّ به إيران هذه الحرب، وإلى انعدام حساسيتها تجاه الكلفة المالية غير المستردّة لمشروعها الطائفي. 

صحيح بالطبع أنّ الولايات المتحدة تستجيب لحاجات إسرائيل أولاً في توجيه سياستها نحو إيران، غير أنّ المقابل قائم، وهو أنّ الموقف الإيراني من "الشيطان الأكبر"، أبعد من مجرد حالة شعاراتية تمثل امتداداً لموقف النظام من إسرائيل، فهو حاجة داخلية عضوية لتمكين السلطة ونمط الحاكمية.

وحتى مع توقيع الاتـفاق، حافظت المؤسسة الحاكمة، وهي مزيج من رجال الدين والعسكر، على مسافة دعائية مضادة لأميركا، في مقابل ترك الساسة المدنيين في حكومتي حسن روحاني يخوضون مفاوضات –رسمت خطوطها في مؤسسة الحكم الفعلية- للوصول إلى تفاهم مجزٍ مع الشيطان.

ومع انقلاب هذا الواقع رأساً على عقب إثر قرار ترامب، باتت الثنائية الإيرانية تدخل ببطء في اضطراب وظيفي. وتحت ضغط التدهور السريع في قيمة العملة الوطنية (الريال) ووصول سعر صرفها إلى 90 ألف ريال مقابل الدولار الأمريكي، وخروج مظاهرات غير مألوفة في بازار طهران، صار لزاماً على إيران أن تواجه التحوّلات الصادمة في أثر العقوبات الأميركية القاسية.

وعد وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بعقوبات لم يسبق لها مثيل في التاريخ ضد إيران، وهذا يبدو تهديداً مُرعباً في الواقع، وبالنظر إلى السّطوة التحكّمية الهائلة التي تملكها واشنطن على الاقتصاد العالمي؛ فإنّ أثر هذه العقوبات بدأ فعلاً حتى قبل أن يتم الإعلان عنها، وأيضاً حتى قبل أن تنتهي مهلة ترامب لإعادة فرض العقوبات السابقة، التي رفعتها إدارة سلفه أوباما بعد توقيع الاتفاق النووي عام 2015 في فيينا. وتوالى قفز الشركات العالمية الكبرى من "سفينة الاقتصاد الإيراني الغارقة" ليصل عددها إلى نحو 50 شركة، بعضها لطالما كان موجوداً في السوق الإيرانية، مثل بيجو سيتروين الفرنسية، وتوقفت صفقات ضخمة مع بوينغ وإيرباص لشراء مئات الطائرات التجارية، وانسحبت توتال من عقد ضخم لتطوير قطاع النفط الإيراني.

ويبدو أنّ القطاع الأكثر حساسية ومصيرية في إيران، وهو قطاع النفط، قد بات هو الهدف المُعلن مع كشف ترامب نواياه بتقليص صادرات إيران من الخام إلى الصفر؛ والواقع أنّ هذا الهدف تحديداً ليس في حاجة إلى تحققه بنسبة كاملة ليكون مُدمّراً لاقتصاد إيران المعتمد كلياً على النفط. وستصبح النتائج أكثر كارثية في ضوء قيام الإيرانيين أنفسهم بشطب بعض أدوات التكيّف السابقة مع العقوبات بعد حصولهم على ضمانات الاتفاق النووي، وما ظهر من عجز الأوروبيين عن حماية استثماراتهم في إيران من تهديد العقوبات الاميركية.

الحقيقة أنّه لا توجد دولة يمكنها تحمّل نتائج حسم قيمة بضاعتها الرئيسية من موازنتها، وهذه الدولة، إن حدثت المعجزة ووجدت، فهي لن تكون إيران، التي تشتري بهذه القيمة هيمنة موهومة لا تُقدّم لها أيّ عائد غير مزيد من الشعارات منتهية الصلاحية.