أطفال البلاستيك في مدينة الرقة

بعدسة الكاتب

بدلاً من مقاعد الصف يتجوّل أحمد بين أكياس القمامة، وبدلاً من الكتب والدفاتر والأقلام في الحقيبة يجمع الفوارغ البلاستيكية في شوالٍ كبيرٍ على ظهره، وينطلق صباح كل يوم، ليس إلى مدرسته، بل إلى مكان في محيط مدينة الرقة يُمكنه فيه جمع بعض النفايات التي تعود عليه ببعض المال ليساعد والدته وأشقاءه.

يرتدي أحمد ذو العشر سنوات بنطالاً مهترئاً من الجينز وقميصاً كان وجده سابقاً بإحدى مكبّات النفاية، صديقه خالد الذي يكبُره بعام واحد يبدو أفضل حالاً، فهو يملك عربة يجرّها ويضع فيها كل ما يجنيه في مكب النفايات الذي يترافقان في الذهاب والعودة منه. أحمد وخالد طفلان من مدينة الرقة يملك كل واحد منهما قصة مؤلمة عاشا تفاصيلها إبان سيطرة تنظيم داعش على مدينتهم، واستمرت بعد سيطرة قوات سوريا الديمقراطية مدعومة من التحالف الدولي.

خلال عودتي من مدينة عين عيسى مُتجهاً إلى مدينة الرقة؛ كان منظر أحمد وأصدقائه صادماً، كما كل مفاصل المدينة المدمّرة التي كانت لوقت قريب ساحة للصراع، أعادني المشهد لصورة الأطفال المُتجهين نحو المدراس وهم يحملون حقائب كتبهم على ظهورهم بكثير من الشقاوة والمرح؛ تبدّل ذلك المشهد في الذاكرة بملامح الشقاء وأكياس من القمامة والبلاستيك ووجوه متسخة تكاد لا تبان سمرتها.

عشرات الأطفال يتوجهون باكراً يُسابقون ساعات الفجر الأولى للوصول إلى مكبات النفايات المنتشرة حول مدينة الرقة، باحثين عن الفوارغ البلاستكية والكرتونية من أجل بيعها لاحقاً بهدف جمع بعض المال لمساعدة عوائلهم. معظم أولئك الأطفال هم من أبناء مدينة الرقة، من أحيائها المُدمّرة، بعضهم فقدوا آباءهم تحت أنقاض المدينة، وآخرون فقدوا أمهاتهم، وغيرهم فقدوا أخوة.

وبرغم الخطورة والتلوث وانتشار الأوبئة في مكبات النفايات إلا أنها أصبحت كمضمار سباق بين الأطفال، فخالد الذي يملك أخاً مبتور القدم وأباً مصاباً بشلل نصفي، يُسابق أقرانه في البحث بين النفايات حتى يملأ عربته الصغيرة ليعود منطلقاً للتاجر الذي يشتري منه ما جمعه، ثم إلى والده بقليل من المال لإكمال يومهم الذي لايكاد يمضي على العائلة.

انتشار عشرات الأطفال وبعض العوائل في مكبات النفايات أدى لحصول أمراض كثيرة أبرزها اللشمانيا، التي أصيب بها نحو 3 ألاف طفل، مع استمرار انتقال العدوى، وفق محمد هديبان مدير البرنامج الوقائي في منظمة (مينتور) الطبية الدولية التي تعمل على مكافحة داء الملاريا واللشمانيا في (45) بلداً من العالم.

بينما لاتزال مئات العائلات تعاني من صعوبة بالغة في إزالة ركام منازلها المُدمرة، بالإضافة لصعوبة إعادة إعمار ما تدمّر منها نتيجة الفقر المُدقع الذي يضرب المدينة بإجبار أطفالها على العمل في أعمال لا تتناسب معهم صحياً أو نفسياً أو جسدياً بحثاً عن لقمة العيش.

وتُؤكد منظمة اليونسيف في تقريرها الصادر 4 نيسان/أبريل 2018 الفائت، وحمل عنوان (عودة الحياة لمدينة الرقة)، بأن البطالة منتشرة بشكل كبير للغاية، وأن الناس يشترون بالدَّين، أو يبيعون ممتلكاتهم الشخصية للحصول على الغذاء. وتسري بين أهالي الرقة حالة من التذمر وخيبة الأمل نتيجة البطء الكبير في إعادة الاستقرار للمدينة، وكذلك عدم وجود تعويضات للمتضررين الذين وجدوا أنفسهم يعيشون فقراً مُدقعاً.

أحمد من عائلة تعتبر ميسورة الحال سابقاً، كان والده يملك دكاناً صغيراً، يُعيل به ثلاثة صبيان، مُحدّثي الصغير أحمد أكبرهم، ثم أصبح مُعيلهم بعد أن فقد والده بقصف التحالف الأخير للمدينة في معركة السيطرة عليها. يقول أحمد إنه لم يجد عملاً أخر، ولم يتمكن من مساعدة عائلته إلا بهذا العمل، فالمحالّ التجارية والمطاعم وغيرها في المدينة قليلة، والبحث عن عمل ضمن أي شيء كما كان سابقاً أصبح ضرباً من المستحيل.

 المبلغ الذي يُحصّله من (عمله) يعود به كل يوم لمنزله الذي يتكون من ثلاث غرف دُمّرت اثنتان منها وبقيت واحدة تجمع الأم وأطفالها. ترتقب والدة أحمد كل مساء عودة طفلها. تخاف عليه بالطبع، لكن خوفها يقتصر على فقدان حياته المفاجئ، أما الأمراض وضياع مستقبله فتقول إنه حين يكبر سيسامحها لصعوبة الحياة.

 «-عمو أني أريد أصير طيار. -ليش ياعمو؟ مو مشان أجي أقصف الرقة، بس أركب الطيارة أروح على أوروبا، هناك قال بي ألعاب چثيرة وأكل وحتى مدارس». يحكي لي أحمد. كغيره من الأطفال تراوده أحلام الطفولة باللعب وارتداء الملابس الملونة والجميلة، لكن جمع البلاستيك والكرتون هو ما يشغل باله أثناء (العمل)، بالرغم أنه في نهاية يومه لا يعود سوى بما يُعادل دولارين.